-A +A
طلال صالح بنان
تثير الحرب التي تشنها إسرائيل، هذه الأيام، ضد لبنان وفلسطين، علامات استفهام وإشارات تعجب، تطال سلوك ومواقف الأطراف، التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة، بما يحدث في ميدان هذه المعركة غير المتكافئة، وغير القابلة للحسم، أيضاً.
بدايةً لنأخذ سلوك الدولة الأعظم المتفردة بالقرار الدولي.. والمسؤولة قبل غيرها بحفظ سلام وأمن العالم. الولايات المتحدة، إلى الآن، تعرقل كل جهود مجلس الأمن للتوصل إلى صيغة قرار يوفر الحد الأدنى من مطالب تهدئة الوضع: وقف إطلاق النار. وزيرة الخارجية الأمريكية المِس رايس، تقول: إنه لابد من تطوير موقف يسمح بإيجاد حل «جذري» للأزمة، وضمان عدم تكرارها...!؟ كلام في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب.

هذا الموقف، الذي تتطلع إلى تطوره المِس رايس، ينطلق من ضرورة إعطاء مزيد من الوقت لآلة الحرب الإسرائيلية لتخلق وضعاً استراتيجياً في ميدان المعركة، يمهد لتحقيق أهداف إسرائيل من إدارتها العنيفة للأزمة. باختصار: تريد المِس رايس الانتظار، حتى تنهي إسرائيل مهمتها في تدمير لبنان، بالكامل.. وإقامة حزام أمني، في جنوب لبنان، تتواجد فيه القوات الإسرائيلية بعمق 20 كيلو متراً، على الأقل... عندها تكون الحكومة اللبنانية جاهزة للتفاوض من أجل توقيع معاهدة سلام منفرد، في ظل فراغ أمني.. وفوضى سياسية.. وقصور كامل في جميع مرافق الدولة... تهيئة لموجة جديدة من العنف، في منطقة أخرى، حتى تكتمل سيناريوهات مشروع الشرق الأوسط الكبير والواسع، وتنصيب إسرائيل قوة إقليمية مهيمنة..!
الرئيس الأمريكي، نفسه، يبدي لا مبالاة «مقززة» لما يحدث من دمار شامل منظم من قبل آلة الحرب الإسرائيلية، ضد لبنان، ويَعُدُ ذلك من قبيل الدفاع عن النفس. من وجهة نظره: الحرب هي الحرب لابد من توقع مآسٍ لها، ولكن يَرْخُص كل ذلك في سبيل انتصار الديموقراطية... يعني، بالطبع إسرائيل... متغاضياً عن حقيقة أن لبنان بلدٌ ديموقراطي، لطالما أشاد بديموقراطيته.!؟
إذا عرفنا موقف رأس هرم النظام الدولي، يمكن أن نستدل على موقف درجات ومساطب الهرب الدنيا. كل من المستر كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة.. وخافير سولانا المنسق الأعلى للسياسات الأوروبية في الاتحاد الأوروبي، لا يبتعدان كثيراً عن موقف واشنطن، وإن حاولا أن يغلفاه بدبلوماسية، أكثر خبثاً.
في أول يوم للأزمة لم يتردد الأمين العام للأمم المتحدة أن يدين، بكل عبارات الاستهجان والاستنكار، خطف الجنديين الإسرائيليين ويطالب بإطلاق سراحهما فوراً... وبعد ذلك لم نسمع عنه رأيه في ما تُوْقِعه آلة الحرب الإسرائيلية من دمار شامل بلبنان وقتل عشوائي للشعب اللبناني... حتى إن المستر عنان، لم يستفزه مقتل 23 مواطناً لبنانياً من قرية مروحين بجنوب لبنان الذين قتلتهم الطائرات الإسرائيلية، بدمٍ باردٍ، وهم في طريقهم لموقع الأمم المتحدة القريب ليستجيروا به ورفض حمايتهم..!؟
من جانبه، خافير سولانا نراه يهيب بمن يرى في نفسه قدرة على احتواء الموقف ليتقدم..!؟ موقف سلبي يعبر عن «قلة حيلة» ولا مبالاة المجموعة الأوروبية التي يمثلها. ومع ذلك نرى المستر سولانا لا ينسى دائماً أن يكرر في كل محطة ينزل بها في مهمته «المكوكية» من أجل «البهرجة» الدعائية، التي يعشقها، إدانة خطف الجنديين الإسرائيليين، وأن إطلاق سراحهما، هو بداية الحل للأزمة.. وليس حلاً لها..!؟
أما الموقف العربي، فحدث ولا حرج. العرب، مثل الأطراف الدولية الأخرى، انشغلوا بالحديث عن الأزمة، دون النظر في خطورتها على أمنهم القومي، ولا نقول: على السلام، الذي ما انفكوا يعلنون، طوال ثلاثة عقود، أنه خيارهم الاستراتيجي، ليكتشفوا مؤخرا أنه سراب.. وأن وعود التسويات السلمية، ما هي إلا أكذوبة كبرى.. ورغم ذلك لا يستطيعون مقاومة استمراء تصديقها..!؟ في النهاية: ترك العرب لبنان لمصيره تحدده آلة الحرب الإسرائيلية الجهنمية.. وسياسات ومواقف اليمينيين الجدد في واشنطن.. ولا مبالاة الأوروبيين.. وتواطؤ الأمم المتحدة... وكأن الأمر لا يعنيهم، لا من قريب ولا من بعيد.
الأخطر من الموقف الرسمي العربي، ذلك الدور الدعائي الذي تقوم به بعض المحطات الفضائية، حيث تستمرئ إطلاق المسميات، على غير معناها الاصطلاحي واشتقاقها اللغوي. هي تتكلم عن الهجوم الإسرائيلي على لبنان والأراضي الفلسطينية، ولا تطلق عليه العدوان.. هي تتكلم عن جماعات مسلحة، وليس عن فصائل مقاومة.. هي تتكلم عن قتلى فلسطينيين ولبنانيين ولا تَعُدهم شهداء.. هي تبالغ في إظهار القوة الإسرائيلية، بكل جبروتها.. ولا تتحدث عن إرادة الصمود عند الفلسطينيين واللبنانيين..
ولكن في زمن العجائب هذا، تظهر أصوات تبدو نشازاً عن العزف الجماعي لـ «كورال» «المايسترو» جورج بوش. هناك أصوات يتردد فيها ضمير الإنسانية، يبعث الأمل بأن المؤامرة الكبرى لقتل السلام في ضمير الإنسانية لن يُكتب لها النجاح. من أمريكا الجنوبية يأتي صوت شافيز.. ومن إيطاليا نسمع صوت برودي.. ومن فرنسا يتردد صوت شيراك. وأهم، من كل ذلك أصوات تتردد من داخل ميدان المعركة، من الفلسطينيين واللبنانيين تعزف سيمفونية الصمود.. وتردد ترنيمة الحرية.. وترتجل نشيد الشهادة.. وتطلق أهازيج الانتصار.
أصوات، وإن بدت خافتة نسبياً، مقارنة بصخب «سمفونية» جورج بوش المعادية للسلام والإنسانية، إلا أنها أصوات تبعث الأمل، بأن ما يحدث على أرض لبنان وفلسطين، لا يعكس نهاية مأساوية لمسيرة التاريخ.