-A +A
يرصدها: هشام عليوان - رئيفة الملاح (بيروت)
«لبنان» تلك الأغنية الجميلة والمكان الفسيح المضياف تحول بين ليلة وضحاها إلى مرثية حزينة لملحمة دموية تفوح رائحة الموت منها. الأشجار الخضراء تحولت إلى يباس والمياه الصافية باتت ملازمة للدماء الحمراء، ضريبة دم يدفعها لبنان وشعبه بفعل آلة إجرام إسرائيلية لا تميز بين الحجر والبشر ولا تميز بين المدني والعسكري، ولا بين لعبة الاطفال وبندقية المقاتل. «يوليو 2006» تاريخ لن ينساه اللبنانيون طالما ان الموت زرع حدائقهم والدموع سقت أزهارهم وتحولت جسورهم الحالمة إلى كوابيس مؤلمة.
«لبنان من الداخل» هو وطن متألم، جريح، لكنه صامد متمسك بالغد المشرق وبالأيام السعيدة وكما تقول الأغنية اللبنانية الشهيرة «إن الثورة تولد من رحم الأحزان».



صفية علي الاحمد لبنانية جنوبية حكايتها هي حكاية النزوح رأت الدنيا لأول مرة في بلدة مروحين وعندما نظرت جنوباً كانت ترى الأراضي الفلسطينية المحتلة، فهذا هو قدرها، فأهلها خرجوا للحياة على الحدود وسكنوا وعملوا هناك في الأرض يفلحونها ويزرعونها. ترعرعت صفية وتزوجت وظلت الحكاية واحدة، هي «النزوح» نزحت عام 1967 مع أهلها حين كانت يافعة ثم نزحت عام 1978 مع زوجها حين كانت عروساً ثم نزحت عام 1982 عندما كانت أماً للمرة الأولى، وها هي تنزح اليوم للمرة الرابعة عام 2006 وقد باتت أماً لعائلة من خمسة أشخاص.
«صفية علي الاحمد» لا تعرف حياتها الصفاء، لقد تآخت مع الجرار الزراعي ليس وهو يحرث الأرض بل وهو ينقلها هرباً من القصف والموت. تقول لـ«عكاظ» والدمعة على خدها: «هذا هو قدرنا، بين كل تهجير وتهجير هناك تهجير آخر. نحن دائماً لدينا حقيبة نضع فيها أغراضنا الخاصة لحملها عند الهروب، نحن نهرب من الموت والموت يلحق بنا.».
نستحق الحياة
تصمت «صفية» ثم تمسح الدمع عن خديها وتقول: «نحن نستحق الحياة مثل كل الناس، لماذا كل هذا نريد ان نعيش سنة من حياتنا بسلام وأمان قبل أن نموت، المستوطنات الإسرائيلية مقابلة لنا ونرى الاسرائيليين وهم يزرعون ارضهم ويعيشون حياة جيدة فيما نحن ليس عندنا شيء.».
نزوح يوليو 2006 إنه النزوح الكبير للمرة الخامسة أو السادسة، ولم يعد احد يحصى المرات، التي اضطر فيها سكان الجنوب في لبنان إلى الهروب شمالاً بواسطة الشاحنات والحافلات والسيارات الصغيرة وسواها من وسائل النقل.
والسيناريو نفسه يتكرر في كل مرة، توتر على الحدود فتراشق بالصواريخ، ثم مناشير تتساقط على القرى والبلدات لإخلائها خلال 24 ساعة قبل تدميرها على رؤوس ساكنيها.
بعد الانسحاب الإسرائيلي إلى الخط الأزرق الدولي في 25 مايو 2000، تنفس السكان الصعداء. وقالوا اخيراً انتهت دوامة النزوح، وصار بامكان الفلاحين زراعة أرضهم، وحصد الخراج دون خوف، وأصبح بالإمكان بناء منزل متواضع على بعد أمتار قليلة من المستوطنات المحاذية تماماً للحدود دونما وجل. وبدا ان عصراً جديداً قد بزغ وعنوانه الأبرز توازن الرعب او الردع المتبادل، وساد اعتقاد عميق لدى سكان الجنوب انه مهما حدث، فان اسرائيل التي ذاقت المرارات في لبنان لن تجرؤ مرة أخرى على ضرب القرى، ولا على تهجير سكانها، ولا على تدمير الجسور كما كانت تفعل في السابق. فصواريخ المقاومة ترعبهم وتهدد امنهم النفسي، وتضطرهم إلى الرد المحدود عقب كل عملية في مزارع شبعا، المنفذ الوحيد لعمليات المقاومة منذ ذلك الحين، لكن هذا المشهد تبدل في ساعات قليلة وما كان مستبعداً إلى حد الاستحالة صار علناً إلى أبعد الحدود، وإلى أقصى الشرق والشمال بحيث لم يعد مكان آمن في طول لبنان وعرضه وهو وضع غير مسبوق على الاطلاق.
مع ذلك، لم يكن النزوح هذه المرة، مماثلاً للمرات السابقة، وبخاصة قبل ظهور حزب الله في الجنوب، ففي زمن منظمة التحرير الفلسطينية كان المسلحون يشاركون المدنيين في النزوح شمالاً، وهو ما كان يزيد من موجات الرعب.
الاتجاه المعاكس
اما في زمن حزب الله حيث المسلحون يسيرون بالاتجاه المعاكس نحو خطوط المواجهة، فان المدنيين يترددون كثيراً في ترك منازلهم لأسباب نفسية بالدرجة الأولى، فكأن الذي ينزح تحت التهديد الإسرائيلي متواطئ مع الاحتلال، أو خاضع له، او خائن للمقاومة وللوطن، وهذا ما كان ظاهراً في بدايات العدوان الحالي، فمنذ الأيام الأولى هدد الجيش الإسرائيلي سكان القرى الحدودية ثم قصف الطرق، والجسور حتى تنقطع الإمدادات الغذائية، لكن السكان صمدوا ورفضوا ثم لما اضطروا إلى إخلاء منازلهم بعد نفاد المواد الحيوية، تعرضت قوافلهم للقصف الإسرائيلي فوقعت المجزرة الرهيبة في بلدة مروحين ثم وقعت مجازر أخرى، في قرى وبلدات اخرى، حيث سقطت الأبنية على رؤوس قاطنيها، في عيترون وفي الدوير، والنبطية وسواها لذلك عندما طلب الإسرائيليون لاحقاً من سكان الجنوب إلى حد نهر الليطاني الخروج من قراهم، كانت الاستجابة أكبر بكثير.
مقومات الصمود
ويقول هنا احد النازحين ويدعى احمد محمد القاسم لـ«عكاظ»: «لقد بقيت في قريتي حتى اليوم السادس من العدوان لكن بعد ذلك لم يعد هناك امكانية للبقاء لا ملاجئ لا مواد غذائية ولا طبية ولا كهرباء ولا ماء يريدون منا الصمود عليهم ان يؤمنوا لنا مقومات هذا الصمود، لقد حرمنا أرضنا ثلاثين سنة وعادت إلينا عام ألفين وها هي تضيع منّا الآن. العدو الإسرائيلي يريد إفراغ قرانا ويبدو أن ما يريده يحصل لقد تعبنا كل هذا ونريد السلام والأمان والعيش بكرامة».
نزوح قسري
بعد 11 يوما من القصف وتقطع طرق الإمداد والحرب البرية وانعدام الأفق السياسي، خرج عشرات الآلاف من المواطنين دفعة واحدة باتجاه الشمال إلى مدينة صور ثم إلى صيدا ومن هناك إلى بيروت وإلى أبعد من بيروت شرقاً وشمالاً.
إنه النزوح القسري إذن، ليس رعباً من الموت بقدر الفزع من انعدام وسائل الحياة، فلا صمود من دون ادواته، ومن دون ملاجئ ولا مستوطنات ولا كهرباء ولا مياه. يقول الإسرائيليون إنهم استعدوا لهذه المعركة منذ ست سنوات أي منذ الانسحاب من لبنان عام 2000 ويبدو ان حزب الله استعد عسكرياً بشكل جيد منذ ذلك الحين وهو ما كشفه حسن نصر الله زعيم الحزب، في اول اطلالة علنية له، بعد أسر الجنديين الإسرائيليين، لكن لا احد يجيب عن سؤال اهم، وهو لماذا لم يُعدّ المجتمع المدني لمثل هذه المعركة؟ لماذا منطقة الجنوب باكملها خالية من وسائل الصمود، ومن الملاجئ الخاصة؟ وأين هي خطط الطوارئ في حالات الحرب ما دامت المقاومة مستمرة في أداء عملياتها كالمعتاد؟ كيف يتزاوج اقتصادان اقتصاد سلام واقتصاد حرب وكيف يتعايش منطقان منطق الدولة ومنطق المقاومة؟
ربما كان الجواب لاحقاً تحميل الحكومة المسؤولية رغم أنها آخر من يعلم، وفقاً للبيان الشهير الذي صدر في الأيام الاولى فهي لم تعلم مسبقاً بعملية حزب الله ولم تتبنها أيضاً لكن الحكومة وقد طلب منها قرار الحرب والسلام وأصبحت أقرب ما تكون إلى هيئة إغاثة وهو الدور الذي رفضه صراحة الوزير مروان حمادة منتفضاً على الوضع الذي وجدت نفسها الحكومة فيه من دون استشارتها ولا نقاشها.