-A +A
سلمان بن فهد العودة
من الصحيح بأن كل إنسان لديه موهبة، وربما موهبة قيادية في جانب من جوانب الحياة.
ومن الصحيح أيضا القول بأن على الإنسان أن يحتفل بمواهبه ويزكيها ويفعلها وينميها ولا يسمح للإهمال أو الشك أو التردد أن يدمرها.

على أنني أفهم أن الموهبة هي جذوة وبذرة تحتاج إلى سقي وتعاهد وتدريب، ولابد لها من أن تمر بوقت كاف
للتجربة، وحالات من الفشل والنجاح حتى تنضج وتستوي على سوقها، هذه سنة الله في العالمين.
رأيت شابا يعتقد بأنه موهوب في القيادة والعلم والفهم والإيمان وغيرها.
ومن هنا يسمح لنفسه، وهو ابن الثلاثين ربيعا، بل منذ كان في العشرين، أن يحكم في كل قضية، ويصدر رأيا سريعا في كل مسألة، ويستدرك على الأكابر ، ويصحح لهم، ويحلل مواقفهم، ويرسم صورة واضحة عن رأيه في المستقبل، وما سيكون وما لن يكون، وماذا سيصدر عن زيد، وكيف سينتهي أمر عبيد!
ورأيت نظير هذا الفتى في حياتي رجلا في سن والده لم يمسك القلم بيده، ولا الورق، لأنه أمي لا يعرف حتى رسم التوقيع أو الإمضاء، وهو طيب في داخله، ولكن صاحب طيبته إحساس بالتفوق والمسؤولية أكثر مما يجب، ورأى أن الناس لا تفهم، أو لا تخاف الله، فكان مفرط الجرأة، متجاوزا حد الأدب والذوق.
رأيته يوما ممسكا بتلابيب شيخ جليل القدر (رحمه الله) وهو يهزه ويقول: خف الله في نفسك، لماذا تفعل كذا، ولماذا تقول كذا ؟
هل لي أن أكون صريحا وأتلمس أن بعض الشباب الذين يحسون بانتمائهم إلى (المركز) السياسي والديني يتولد عندهم إحساس شديد بالسلطة والزعامة وربما أقول: الكبر الخفي!، ويصبح لكلماتهم وآرائهم «وزن زائد» أكثر من المعتاد، ويغدو التدارك ومعرفة مقدار النفس لديهم أمرا في غاية الصعوبة، فهم مصدر «سك» الأحكام على
الناس، وإصدار القرارات، وكل ما هناك أن الآخرين يمرون من عندهم صفوفا، وهم يقيمونهم ويلحقون كل امرئ منهم بما يشاكله، ويضعون عليه علامة أو وسما يدل على عيبه.
والدائرة تضيق .
فلا يصفو في نهاية المطاف إلا أقل القليل.
وكأن هذا الإرث بالانتماء الجغرافي أو ما شاكله، والذي حصل عليه ذاك الفتى دون سعي ولا كد حرمه من التدرج، وجعله يولد وفي يده مسطرة يقيس بها سواه! تماما كذاك الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب!
ورحم الله سلفنا الذي كان يقول:
من لم يقد فيطير في خيشومه ... رهج الخميس فلن يقود خميسا
كان القرآن حاسما في نفي التفاخر بالآباء والتراث، مقررا أن قيمة المرء عمله وتحصيله وسعيه ودأبه (وأن ليس للإنسانِ إلا ما سعى) (النجم:39) ، (ليس بأمانيكم ولا أماني أهلِ الكتاب) (النساء: من الآية123)، (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدينِ من عبادنا صالحينِ فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين * وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابنِ لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين) (التحريم:11،10)، (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) (هود: من الآية 46).
وفي صحيح البخاري ومسلم يقول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ : « إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله، وصالح المؤمنين.» .
حين أستمع إلى أحدهم، أو أقرأ لنظيره أحس بأننا كلنا أصبحنا قادة دارسين للمسار الاستراتيجي ومنظرين للمستقبل وقارئين للخيارات المحتملة وفاهمين للأمور جيدا دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث والدرس
والاستماع، ودون أن نعاني آلام التكوين والتراكم المعرفي والخبراتي، أولسنا قادرين على أن نتكلم ولدينا مساحة نملك أن نملأها .. فلم التردد إذن ؟
روى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه قال قَبيصة بن جابر: خرجنا حجاجا، فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي ــ أو: برح ــ فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خشاءه فركب ردعه ميتا، قال: فعظمنا عليه، فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه، قال: فقص عليه القصة قال: وإلى جنبه رجل كأن وجهه قلب فضة ــ يعني عبد الرحمن بن عوف ــ فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه قال: ثم أقبل على الرجل فقال: أعمدا قتلته أم خطأ ؟ قال الرجل: لقد تعمدت رميه، وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، أعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها. قال: فقمنا من عنده، فقلت لصاحبي: أيها الرجل، عظم شعائر الله، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه: أعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذاك. قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة: { يحكم به ذوا عدل منكم } قال: فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة. قال: فعلا صاحبي ضربا بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفهت الحكم؟ قال: ثم أقبل علي فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحل لك اليوم شيئا يحرم عليك مني، قال: يا قبيصة بن جابر، إني أراك شاب السن، فسيح الصدر، بين اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاقَ الحسنة، فإياك وعثرات الشباب.
متى يتعلم ذلك الشاب أن الطريق إلى القيادة طويل وشاق ويحتاج إلى صبر ومصابرة واقتباس للدروس والحكمة من السابقين، وأن زلات اللسان، وتعديات القول على الآخرين سبب في الحرمان، بل من المجرب أن أولئك الذين سمحوا لأنفسهم في الشباب أن يتكلموا بكل شيء ويهاجموا كل أحد لا يلبثون أن يبتعدوا عن الطريق وتزل بهم الأقدام، وإذا كتب الله لهم دوام الاستقامة فسيجدون في طريقهم من يفعل معهم الدور ذاته الذي فعلوه يوما ما مع الآخرين، جزاء وفاقا، والجزاء من جنس العمل..
متى يدري ذلك الشاب أن الموهبة القيادية لا تتوفر لكل أحد، وأن التفكير الاستراتيجي ليس مجرد عبارات تصفف ولا كلمات تنمق ولكنها رؤية وخبرة ومعرفة وحكمة، وحتى أولئك الذين يوجد لديهم استعداد من هذا القبيل يحتاجون إلى صقل وتدريب حتى يحصلوا على التميز والتفوق.
متى يفهم ذلك الشاب أن مجرد إلقاء الحجج التي تبدو منطقية لا يعني شيئا، لأن الإنسان قد يبدو منطقيا مع نفسه دوما، ولكنه يضعف عن فهم مواقف الآخرين، ويتخيل أنها متهافتة أو ضعيفة أو متناقضة لسبب بسيط، هو أنه يريد أن تكون ذلك!.