-A +A
عبدالله بن بجاد العتيبي
يبدو أن الأجواء مشحونة إلى أقصى حد، والمنطقة مقبلة على تصعيد غير مسبوق، وإيران تسعى ــ في اللحظة الأخيرة ــ لإيجاد أي مخرج لا يعرضها لعقوبات المجتمع الدولي ونقمته، وهي حائرة اليوم بين الآيديولوجيا والسياسة، بين ما تعتقده حقا لها وبين نتائج بازاري المصلحة والمفسدة، وبالعبارة الصريحة بين «الولي الفقيه» و«الولي المصلح».
لم تخف إيران يوما طموحاتها في الحصول على النفوذ في المنطقة، منذ الشاه وطموحاته الإقليمية المعروفة، وكذلك الخميني وتصريحاته التي نشرتها العربية نت الأسبوع الماضي والتي يؤكد فيها أنه «لا يوجد أفضل من شعبنا ولا حتى شعب رسول الله»! كما نقل عنه علي ولايتي، وصولا لخامنئي وأحمدي نجاد وتصريحاتهم وتصريحات مسؤوليهم في أن هدفهم هو الإقرار لهم بهذا النفوذ في المنطقة، وما عداوتهم لإسرائيل، وشعاراتهم التي يرفعون، وأحزاب الله التي زرعوا والحركات الإرهابية التي احتتوا كالقاعدة الأم والقواعد الأطراف في العراق واليمن وبلدان أخرى إلا شاهد على استمرار هذا التوجه الإيراني المعادي.

جنون العظمة يمنع إيران من رؤية المشهد الإقليمي والعالمي كما هو، فإيران تراه كما تطمح وتتخيل فهي أفضل من جيل الرسول وأفضل من العالم كله وأكثر ذكاء، وتتناسى في غشاوة الجنون قوة الخصم الإقليمي والعالمي، وتغض الطرف عن مشاكلها الداخلية الكبرى، التي ربما لا تقلق النظام الإيراني الحالم، ولكنها تقلق الدول الإقليمية الواعية، خشية من أن انتشار الفوضى في إيران واحتدام الصراع فيها لا ينبئ بمستقبل باهٍ ولا باستقرار في الداخل ولا في الخارج، كل هذا تفعله إيران طمعا في الحصول على مكانة عالمية أخطأت الطريق إليها.
لقد عاندت إيران المجتمع الدولي، وأرسلت رسائل عبر مناوراتها العسكرية وتصلبها السياسي وتصريحاتها النارية تشي بمزيد من التحجر والتعنت، مما حدا بدول العالم أجمع حتى تلك التي كانت إيران تعتقد أنها حليفة لها كروسيا والصين أن تتخذ موقفا صارما من إيران وطموحاتها التي غلبت الآيديولوجيا على السياسة ردحا من الزمن.
اليوم، حين تسعى إيران ــ متأخرة ــ للتواصل مع العالم وإقناعه، وذلك خلال اجتماعها مع البرازيل وتركيا، ورضاها باستبدال اليورانيوم بالوقود النووي، فإنها لم تفعل شيئا أكثر من إثارة الرأي العام الداخلي ضدها كما جاء في تصريحات لبعض الإيرانيين بإنها تدعم النفوذ التركي في المنطقة دون أي مصلحة لإيران، وإثارة الرأي العام الدولي باختيارها البرازيل على دولتين أوروبيتين أكثر أهمية من البرازيل.
قدمت إيران صفقات اللحظة الأخيرة، مع البرازيل، ومع تركيا، ومع فرنسا عبر تبادل السجناء، ولكنها جميعا جاءت في الوقت الضائع وفي وقت بدأ العالم يدرك مدى الخطر الذي تمثله إيران، أي في الوقت الذي يحرم إيران من أية فائدة بلغة السياسة، ويجبرها على الخضوع لقرارات العالم بلغة القوة.
وهكذا، فقرار الأمم المتحدة الذي ستتخذه تجاه إيران بعد طول تداول ومماطلة، ستجيء فيه تفاصيل كثيرة تطبق الخناق على إيران وتضيق عليها مجال العبث، وتعيدها من سكرة الأوهام إلى حقائق الواقع، ومن خرافات المهدي المنتظر إلى قرارات القائد السياسي.
أحسب أن أوهام الآيديولوجيا الإيرانية قادتها إلى المذبحة، وقناعاتها السياسية جاءت متأخرة عن وقتها، ما يدل على أن القرار الإيراني حائر بين الآيديولوجيا والمصلحة، وهذه الحيرة في هذه اللحظة التاريخية الحرجة ستكلف إيران الدولة أكثر مما كانت تحتسب وتقدر، وها هي اليوم بين قرارين اثنين: إما أن تعلن كفرها بالآيديولوجيا التي تبنتها، وذلك ما سيزيد من رصيد منطق المعارضة الإصلاحية الداخلية وما يرفع من مكانة العروض الدولية الواقعية لها في الفترة الماضية، وإما أن تعلن كفرها بالسياسة ومنطقها وشروطها، وهذا ما تعرف القيادة الإيرانية أنها ستدفع ثمنه غاليا.
لقد انتهى بازار المزايدات الآيديولوجية وجاءت لحظة الحقيقة، وأصبح المرشد الأعلى بين نارين: نار رفيقه الآيديولوجي أحمدي نجاد الذي دعمه بكل قوته وجعله يملك السلطة شبه المطلقة، ونار المعارضة الداخلية الإصلاحية التي تملك الشارع والجماهير والمصداقية، ولديها من التأثير في تحريك الشارع ما ليس لديه، إضافة إلى أن العقوبات الدولية المنتظرة تتقصد أكثر ما تتقصد تحجيم قدرته على فرض سيطرته على الداخل الإيراني بالتزامن مع تحجيم قدرته على تحريك الجهات الخارجية التي اشترى ولاءاتها وامتلك شعاراتها واحتسبها رصيدا ثابتا.
ربما أخلصت بعض تلك الجهات الخارجية له، ولكنها لن تستطيع فعل شيء حين يصبح هو نفسه وبلده في مكان حرج وحين يصبح قراره ضعيفا وخارجا عما ألفت، أي حين يرتكس من الشعارات إلى الواقع، وينتكس من الآيديولوجيا إلى السياسة، فتضيق خياراته وتنعدم قدرته على المناورة، وحينذاك، حين يصبح الاتجاه دوليا لمحاسبة إيران كما يجري الإعداد له اليوم ستفزع إيران للبحث عن المنقذ، ولن يأتيها منقذ ما دامت هذه سياستها وهذا طريقها، وسيعاود مهديها المنتظر الاختباء مرة أخرى.
ربما حاولت إيران التذاكي على المجتمع الدولي عبر صفقات صغيرة هنا وهناك، كما جرى مع فرنسا أو مع المعتقلين الأمريكيين، ولكنها تنسى الصورة الكبرى التي رسمتها لنفسها، بأنها عدوة دائمة لدول المنطقة وللمجتمع الدولي، وأنها طموحة بما لا يسمح به الزمان والمكان، وأنها دولة تقمع شعبها وتزور انتخاباتها، وتضرب معارضتها الداخلية بأسلوب لا ينتمي لعالم اليوم.
لقد حاول قادة إيران الاتقاء بالبرازيل وتركيا، ولكنهم نسوا أنهم بهذا التوجه خسروا أوروبا وأكثر من هذا خسروا روسيا والصين، ولم يربحوا تركيا الجارة التي تسعى لنفوذ مماثل، ولن يربحوا البرازيل التي تسعى لبذل المزيد من الجهد لإنجاح اقتصادها الذي تعبت في بنائه وتريد له المزيد من النجاح، وإن ناورت البرازيل مع إيران فذلك بغرض لفت العالم إليها لتدعيم اقتصادها ونجاحاتها ومكانتها، وستلقي بإيران في أول مفترق للمصالح يضر بها ولا يزيد من نفعها.
يجب التفريق في هذا السياق بين القيادة الإيرانية المتخبطة في قراراتها الداخلية والخارجية وبين الشعب الإيراني المغلوب على أمره، والذي يطمح لحياة كريمة ورقي حضاري وتعاون وتعايش مع العالم، فالفرق بين الاثنين شاسع ومراعاته والانتباه له يمنح القرارات الدولية ضد إيران مجالا واسعا للنجاح.
إن القرارات السياسية حين يدعمها العقل والمنطق تجد فرصة للنجاح، وحين يدعمها الشعب أيضا تكون فرصتها في النجاح أكبر، غير أن القرارات الإيرانية في السنوات الأخيرة لم تحظ بأي من هذين العاملين، فلا العقل ولا المنطق يؤيدها، ولا الشعب يرضى بها، وبناء على هذا فهي ستدخل في المرحلة القادمة مرحلة التيه والضياع والتخبط، وذلك ما لا نرجوه لها ولا للمنطقة ولا للعالم.
سنظل في المنطقة بانتظار القرار الدولي الذي سيصدر خلال شهر على الأكثر بخصوص تشديد العقوبات على إيران، وسيكون لدى إيران فسحة من الوقت أن تتخذ قرارها إما بمواجهة العالم وإما بمسالمته، إما بالتصعيد الآيديولوجي أو بالقناعة السياسية.
Bjad33@gmail.com
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة