-A +A
ثامر عدنان شاكر
في كل مرة أزور فيها مدينة الملك عبد الله الاقتصادية أعود محملا بألف خاطر، يتعاركون في استماتة، وحين أعتزم إيقاف المعركة محاولا تعريف الحالة المجنونة التي أعيشها.. أجدني عاجزا عن الثرثرة.
هو إشعار صريح بأني خارج الخدمة مؤقتا بلا قلم ولا ورقة.. ثم أستفيق بعدها مقرا، إنها لحظات سعادة حقيقية ولدت بين ضلوعي وألقت بظلالها على كل ما في، ثم أتراجع وأنكر حالتي المجنونة وأسمها هواجس مراهقة مشاغبة تغزو قلبي، ثم أنفي وأعود مقرا بحقيقة الخوف والرهبة من غد ربما يخلف وعده معنا ولا يوصلنا إلى مرفأ الحلم في سلام وأمان.

بعد كل رحلة قصيرة إلى موقع المدينة البعيد، وفي طريق العودة الممتد من قلب الصحراء محاذيا شريطا ساحليا على مشارف بحر استكان منذ مئات السنين في سلام وروية، أسترجع تفاصيل ملامح المدينة الجديدة، المدينة الحلم بمبانيها المثالية وشاطئها الرومانسي البديع وهدوئه الراقي الجميل.. أسمع نبضات قلب المدينة السكني النموذجي يهمس في حبور وقسمات الوجوه المعدودة التي أخذت قرار الاستقرار هناك بعيدا عن الزحام والضوضاء، ثم المدينة التعليمية، ثم المعلم الصناعي وصحوة جميلة في الاتجاه الصحيح، وميناء واعد في الطرف الآخر البعيد من أرض الأحلام.. صورة تجعلك تقف في حيرة ما بين مبان اكتملت وأخرى يشتد عودها، وما بين مجسمات لواقع قادم وخرائط صماء، تجعلك تبتسم وتعبس.. وتتأمل.. وتقول يا رب.
هو ليس مشروعا تنمويا فحسب، أو مدينة اقتصادية تنبت على ضفاف نهر الطفرة، في موسم العطاء، في زمن ملك إنسان يدعى عبد الله بن عبد العزيز، بل هو ربيع الوطن الذي نأمل أن تقطف الأجيال القادمة ثماره.. هو نواة التغيير ومركز الجاذبية لأجيال طامحة باتت تعاني من قوة الطرد المركزية وسط أعاصير من التحديات المتتابعة.. هذه الزاوية الواعدة من حيز وطننا الغالي غدت نقطة البدء والتربة الخصبة لآلاف الأماني الشابة كي تكبر وتعيش وتزدهر.
وتأتي الرسائل تتوالى ما بين حانق وطارق آخر على الشاشة الصماء التي تربطني بالعالم.. يشكو مقسما أغلظ الأيمان أني أعيش وهما، وأن الأحلام ستغرق في برك الفساد الشهيرة، وأن ضعف قدراتنا الفردية ــ التي سببها فساد أيضا ــ لن تقدر أن تحمل الحلم الوليد ليحبوا.. لن تقدر عقولنا القاصرة أن ترعاه وأن تطعمه وتسقيه ليكبر ويشتد عوده.. وأني أحيا بمفردي في عالم وردي الملامح.. لا أبالي كثيرا فقد أعتدنا على نبرة الإحباط التي يتغنى بها الشعب العربي من الخليج للمحيط.. سمتنا العربية.. أو ربما هي وصمة تاريخنا السياسي الانهزامي.
في لحظة انفعال، أستعيد عافيتي ويأتيني القلم طوعا.. أكتب وأنثر بوحي دون أن أفكر، أعود حينها للحظات جميلة رأيت فيها ملامح مدينة تبنى على أرض صماء وبحر عذري القسمات لم تمسسه آليات الحفر الفتاكة المعتادة.. أسترجع تلك الوجوه الشابة اليافعة بدماثة خلقها وحيويتها وتفاؤلها وعلمها، وقد وقفت معتزة في ابتسامة جذابة واثقة.. أعود بذاكرتي لملامح المدينة التي تولد وتتعثر.. ثم تمضي في إصرار جميل.. أذكر صوت المقرئ الشجي حين كان صوته يصدح مرددا الآية الكريمة، (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)، فتتجول أعين الحضور في أرجاء المكان، وأسمع الألسنة تلهج بحمد الله وكأنها تقول لرب العزة والجلال.. استجبنا لك يا ربنا في عليائك وها نحن نعمر أرضك.. سبحانك، فلتكن معنا ولا تخذلنا.
أجدني أبتسم وأكتب.. أتمتم.. دعونا نحلم.. دعونا نعبد طريق الحلم وإن كان لمحطة الوهم السعيدة.. فشرف المحاولة أشجع كثيرا من مجرد الندب واللطم والصراخ وتثبيط الهمم.
لا حلم بلا كوابيس، ولا تنمية بلا عوائق، ولا إنجاز بلا تحديات.. الأهم هو الإصرار الجميل الذي يملأ أوردتنا الشابة رغبة في الحياة.. عل خطواتنا النشطة أوصلتنا لحدود محطة تسمى القمر.. لا أجبن من لحظات الاستسلام والتخاذل.. هو إيماننا التام بأننا حين نخطو ونرتقي فإننا لا نكون بمفردنا، بل إن أوطاننا وقلوب من نحب تسمو معنا.. وهذا أروع ما في الرحلة.
دمتم ودام الوطن بألف خير