-A +A
ثامر عدنان شاكر
طه حسين وفي مقابلة تليفزيونية نادرة، ظهر موبخا جيل الخمسينيات من الكتاب والمفكرين قائلا إنه زمن السينما والتليفزيون والراديو، وإنه زمن تردي اللغة وركاكة الجمل، بعد أن غاب الفاعل وجرجر المفعول في الحانات والأزقة، وتبعثرت كرامة الكلمات وقد تاه المبتدأ والخبر في الزحام حيث لم يعد يعرف مكانهما أحد !.
طه حسين، المفكر الكبير، والاسم اللامع كان يتنبأ لجيل الخمسينيات الصاعد بمستقبل أسود قاتم وأن الثقافة والأدب في طريقهما إلى الانحدار لا محال، مصرا أن ملهيات العصر ستمزق الطموح وتحيل الأحلام إلى سخافات، وأن الثقافة ستموت على يد القادمين الجدد بعد أن تهدمت اللغة مع سبق الإصرار والترصد !.

لكن ليس كل نبوءة تتحقق، وإن أتت على لسان علامة عاش حياة مديدة على جزر الأدب والفكر ! نبوءة الأستاذ الكبير جانبت الصواب، ونجا جيل بأسره من الضياع ليترك بصمة، وقد تلاحقت الإنجازات وتلألأت أسماءهم في سماء الأدب والفكر، مثيرين حراكا فكريا وثقافيا في لقطة مميزة لم تشهد مصر مثيلا لها بعد ذلك.. يوسف إدريس، نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، مصطفى أمين، أنيس منصور، وغيرهم من العقول التي حصدت حب الناس، واقتحمت وجدانهم، وعاشت في قلوبهم طويلا، اختلفنا معهم أم اتفقنا !.
المشهد يتكرر اليوم وكل يوم. فالتكهنات تتوالى من كل صوب، مفادها أن الشباب غير قادر على تحمل المسؤولية وأن الجيل الذي سبقه أقدر منه على القيادة وعلى الإنجاز، والتهمة دائما جاهزة.. رداءة الزمن الجديد والملهيات التي تصيب العقل بالتخمة الكاذبة !.
لكن ماذا تراه سيكون حال الأديب الكبير صاحب ملحمة الأيام الحياتية الشهيرة إن ساقته قدماه ليجلس في مقاهينا، أو تاه ذات مرة ودخل إلى إحدى غرف الدردشة أو حتى سنحت له الفرصة أن يسمر معنا ذات ويك- إند صيفي ثائر، ماذا تراه كان سيقول حين يرى زوجين وأطفالهما الثلاثة وقد جلسوا على طاولة واحدة وكل واحد منهم راحت أصابعه تعبث في لوحة البلاك بيري الذي لا يصمت ولا لثانية وقد تسمرت العيون على شاشة صماء، وغابت الأرواح بعيدا، وكأن كل فرد منهم يعيش على كوكب بمفرده، في حين أن جميعهم يجلسون حول طاولة لا يزيد قطرها عن متر وربع!.
رغم كل ذلك، ورغم أمواج التكنولوجيا التي حملتنا معها إلى حيث لا رجعة، إلا أنه من الممكن جدا أن يكون جيل اليوم مصدر النور في تاريخنا الحديث المعتم.. ربما لا نملك هدوء الرواد، وليس لدينا من صفاء الذهن الكثير، بعد أن أصبحت حياتنا رنات في رنات، لكننا والحمد لله نملك أبحرا ومحيطات من المعلومات. وأصبح لدينا القدرة على أن نطوق المشرق والمغرب ما بين السبابة والإبهام، وغدت عيوننا وعقولنا تحصد ملايين التفاصيل دون حد أو ملل. اليوم نستطيع أن نصل للمعلومة في ربع ثانية، وقد أصبح جوجل وفيسبوك وويكيبيديا من أعمدة البيت والمجلس والمكتب، بل أهم من أصحاب الدار أنفسهم.. لدينا مركز إعلام متنقل، يسمى مجازا هاتف جوال وقد حمل في أحشائه ما لذ وطاب من القدرات الخارقة !، اليوم وبعد خمسين عاما، أنت ترى مقابلة نادرة لمفكر عظيم دون أشرطة فيديو مهترئة وقد نهش أطرافها الزمن.. أنت تشاهدها على لوحة تسمى الأي باد، وقد وصلت إليك بعد أن بحثت عنها في مليون أرشيف إلكتروني وفي لمح البصر، فتشارك برأيك بعدها وتعرف رأي رفيق صيني كلبوظ يختبئ في كهف شاهد ما شاهدته أنت في نفس اللحظة !، ترى وتشارك وتسمع، وكأنك تقف على شرفة تطل منها على كل الدنيا !.
لم تكن أدوات العصر يوما عائقا أمام ولادة الإنجاز، لم تكن الرفاهية مصيبة، فقط ترتيب قائمة الأولويات هو المحور والأساس.. نحن في زمن جميل، ممتع، بل رائع الجمال.. هو عصر المعلومة وعصر ذوبان الحدود، واندحار احتكار الحقيقة، لازال هناك أمل.. بل ألف أمل. فقط، فلنعدل بوصلة اهتمامنا، ولنكن حريصين أن تكون الرفاهية بميزان وليست خنجرا نقتل به أوقاتنا في برود مقيت !.
تبقى نقطة الفصل،كيف نسخر موارد العصر وجنونه، لخدمة قضايانا دون أن نحيد عن الطريق فنضيع وتتحقق نبوءة عميد الأدب العربي !.
دمتم ودام الوطن بألف خير