-A +A
عبدالله بن بجاد العتيبي
كل تقارير التنمية العربية الصادرة عن الأمم المتحدة أو نظيراتها الصادرة عن بعض مراكز الأبحاث العربية والأجنبية تؤكد تخلف التعليم في العالم العربي عن ركب التعليم العالمي سواء الغربي منه أم الشرقي، والمقصود بالمقارنة هنا هو المقارنة مع الدول المتقدمة كالدول الغربية، أمريكا وأوروبا والدول الشرقية كاليابان والصين، ومع الدول الصاعدة بقوة في جنوب شرق آسيا كالهند وسنغافورة وماليزيا، لأن هذا النوع من المقارنة دافع للتطوير، محرض على الإصلاح.
شهد العالم العربي افتتاح بعض الجامعات الغربية قديما، كالجامعة الأمريكية في بيروت والقاهرة، وقد كان لمخرجاتهما التعليمية أثر جيد في فتح الفرص لطلابهما، وكذلك في الحياة العامة في تلك البلدان.
افتتحت الجامعة الأمريكية ــ كذلك ــ فروعا لها في الشارقة ودبي، وفيهما طلاب من شتى البلدان، غير أن الجديد في السنوات القليلة الماضية هو افتتاح فروع لجامعات غربية مشهود لها بالعراقة التاريخية والتشدد في معايير الجودة التعليمية لضمان جودة المخرجات، وذلك مثل جامعة السوربون الفرنسية في أبو ظبي وكذلك جامعة نيويورك الأمريكية في نفس المدينة، وأيضا جامعة جورج تاون الأمريكية في قطر وكذلك جامعة تكساس أي آند إم في قطر وغيرها من الجامعات الأقل شهرة أو الكليات المتخصصة.
كم هو جميل ونافع أن ينشأ شبابنا وبين أيديهم فرصة الالتحاق بهكذا جامعات ذات ثقل عالميٍ في بلدانهم وبين أهلهم وذويهم، ويبقى على هذا الجيل الاجتهاد في التحصيل والجدية في طلب العلوم الحديثة من منابع أصيلة، ولكل مجتهد نصيب.
أحسب أنه ينبغي التفريق في هذه الجامعات بين تدريس المواد العلمية البحتة ــ من جهة ــ كالرياضيات والفلك والهندسة والطب ونحوها، فتكون الأولوية فيها لآخر الحقائق العلمية والنظريات الحديثة والمعاصرة، حتى يتم ضمان أن يكون الطالب المتخرج من هذه الجامعات موازيا ومنافسا من الناحية العلمية لنظيره الدارس في الجامعات عينها في بلدانها الأصلية.
وبين تدريس المواد والتخصصات ذات الارتباط بالفلسفة والتصورات الأخلاقية ــ من جهة أخرى ــ ككليات الآداب والاجتماع والقانون ونحوها، ففي هذه التخصصات ينبغي المزاوجة بين مراعاة طبيعة المجتمعات وبين إحراق المراحل المعرفية، التي ربما تتجاوز الظروف الموضوعية للمجتمعات العربية، وذلك عبر تدريس مبادئ ما بعد الحداثة لطلاب بعضهم يعيش مرحلة أشبه ما تكون بمرحلة ظلام القرون الوسطى في أوروبا، وبعضهم منخرط في العولمة حتى النخاع عبر وسائلها الحديثة.
إن مثل هذه المزاوجة لها جانبان: فهي تسهل على الطالب المجد عملية حرق المراحل، وتجعله يجتاز القنطرة بين التخلف والتقدم بأيسر سبيل. نعم، قد تسبب هذه العملية صدمة لقليل من الطلاب، تجعله يعرض جملة وتفصيلا عن هذه النظريات العلمية الجديدة ولكن هذا وضع نادر، وإما أن يعتنقها وهذا الأكثر، ولن يضيره فيما بعد أن يخوض صداما مع مجتمعه وربما عذابا مع نفسه وقناعاته المترسخة، وفي كل خير، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح.
بطبيعة الحال فالحديث هنا يتركز على سنوات الجامعة الأولى أو مرحلة البكالوريوس وليس على المراحل المتقدمة كالماجستير والدكتوراه التي يفترض فيها أن يكون الطالب ناضجا بالقدر الكافي الذي يؤهله لاختيار قناعاته وميوله وترتيب أولوياته بشكل مستقل يوازن فيه بين حاجاته الذاتية نفسيا وماديا، وبين كينونته داخل منظومة من العلاقات المتشابكة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وبين رؤيته لكل ذلك أخلاقيا وفلسفيا.
إن من طبيعة الأشياء ومن عظة التاريخ ومن حديث التجارب أن السعي لنقل المجتمعات من حالة ذهنية ونفسية وعلمية إلى حالة أكثر تقدما ورقيا ستكون لها إيجابياتها الكبرى، ولكنها ستكون محفوفة بشيء من السلبيات التي تعبر بها المنظومات الاجتماعية عما استقر في وعيها وعاشت عليه سنين عددا، ولكن هذه لا تعدو أن تكون ضريبة النجاح الواجب دفعها.
ما قصدته هو أن على القائمين على هذه الجامعات استحضار ما سبق لضمان التكثر من الإيجابيات والحد من السلبيات، وأحسب أن الجميع يتفق على أنه من غير المنطقي وغير المعقول أن تدرس جيلا من الطلاب فلسفة سبينوزا دون أن يتعرفوا على فلسفة ديكارت ومنهجه، فضلا عن أن تنقلهم لفوكو وكثير منهم مدمن على متابعة برامج الإفتاء كما تقدمها القنوات الفضائية.
بالتوازي مع هذا الحراك الإيجابي لافتتاح أكبر قدر ممكن من الجامعات الغربية في المنطقة العربية، ثمة حركة كبرى تتجلى فيما يمكن تسميته «حركة الابتعاث للخارج» التي تشهد علوا مستمرا وتصاعدا إيجابيا، خاصة في دول الخليج وعلى رأسها سياسة الابتعاث غير المسبوقة بهذا الحجم وهذا التأثير في السعودية.
حتى يكتمل المشهد التطويري للتعليم فإنني أحسب أنه مما يجب الانتباه إليه ودعمه في مثل هذا السياق هو الجامعات العربية الوليدة التي تسعى بجهد كبير وتخطيط محكم لبناء جامعات ذات معايير عالمية، كما جرى في جامعة (كاوست) السعودية.
ما يعلمنا إياه هذا الحراك تجاه استجلاب الجامعات الغربية، وبناء جامعاتنا المحلية على أساس من معايير تلك الجامعات الغربية هو التأكيد على أننا قادرون حين تتوفر الرؤية السياسية الواعية، والتنفيذ التعليمي المناسب على إنتاج مخرجات تعليمية فائقة التخصص، وقديرة التطور، ما يمهد الطريق اللاحب للنبوغ والتميز، وما يمنح القدرة على المنافسة والتأثير لأجيالٍ عربية طموحة، ربما منعتها عوائق شتى عن الوصول لمثل هذا المستوى من التعليم والاستفادة، وفيها من النبوغ والطموح الكثير والكثير.
مناهج الجامعات الغربية في البلاد العربية، وحركة الابتعاث الواسعة تمنح أبناءنا فرصة الانخراط في العصر الحديث بشروطه، والتعايش مع الواقع بأولوياته، كما أنها تحجز بينهم وبين التكرار الممل والمضر في الآن ذاته الذي تمنحهم إياه مستويات التعليم العام المتدنية في مجتمعاتنا، التي لم تزل تعتمد الحفظ ــ وحده ــ معيارا للنجاح والفشل.
من المؤكد أن مخرجات هذه الجامعات وتلك البعثات من الطلاب ستمنح كل مجتمع رعاها وأيدها جيلا جديدا من الشباب النابه والنابغ والمتخصص، القادر على تولي شتى المهام التي تخدم بلده ووطنه ومجتمعه.
ليس جلب هذه الجامعات العالمية بمعاييرها المتقدمة أمرا سهلا للدول المستقبلة لها، وربما قدمت هذه الدول تنازلات عسيرة من أجل هذا الهدف، هدف تطوير الجيل الجديد ومنحه أفضل الفرص لتحقيق أحلامه وتطوير مجتمعاته وترقية دوله.
يعلم المراقب أن هذه الجامعات، وهذه البعثات، ستبقى غصة في حلق كل متعصب للماضي كاره للحاضر عدو للمستقبل، وأنه ــ على الدوام ــ سيظل يحسبها مخاصمة له، وأن مخرجاتها عدوة لرؤيته، وأن نجاحها يزيد في فشله، وتطورها يفاقم من تخلفه.
كانت الجامعات المتقدمة على طول التاريخ وعرض الجغرافيا جسرا للتقدم ومنارة للحضارة ومفخرة للأمم، ومن هنا فإن لنا كل الحق في أن نحلم بقادم أزهى وأن نأمل بمستقبل أبهى.
Bjad33@hotmail.com


للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة