الموت سنة ماضية، وقدر محتوم، ونهاية لا بد منها، إنه يأخذ الصغير والكبير، والعظيم والحقير، والمؤثر والمتأثر، لا فرق بين ميت وميت إلا حجم التأثير الذي تعب عليه، وطبيعة الإنجاز الذي أضنى نفسه لأجله، وقوة الفكر الذي تركه ينفع الناس ويمكث في الأرض.
ويشمل هذا كله المشاركة في التغيير، سواء كان التغيير فكريا وهو شديد الأهمية أم سياسيا وهو لا يقل أهمية عن سابقه، أم كان التغيير في مجالات أخرى لها من الأهمية مكان مستحق كالإعلام والصحافة والدراما، أو لها من التأثير محل بين كالرواية أو القصة أو المقالة أو غيرها من فنون القول وإبداعات الحروف.
جر لهذا الحديث أننا نستطيع أن نعد هذا العام في عالمنا العربي والإسلامي عام الخسارات الكبرى على مستوى الفكر والفلسفة والثقافة، فقد فقدنا مفكرين كبار ممن ينتج الأفكار الجديدة والمشاريع الخلاقة، أي من يمثلون رأس الهرم في الإنتاج المعرفي والفلسفي، وفقدنا بعض مروجي الأفكار الناشطين في بثها والمنافحين دفاعا عنها.
لئن كانت الثقافة والفلسفة أشبه بالهرم ذي الطبقات الثلاث، بحيث يعلوه في الطبقة الأولى التي تمثل رأس الهرم منتجو الأفكار أي الفلاسفة أو على مستوى أقل المفكرون، ويتوسطه في الطبقة الثانية مروجوا الأفكار وناشروها، ويقع في قاعدته المتلقون بشتى تصنيفاتهم، فإننا في هذا العام فقدنا من رأس الهرم المعرفي رجالا شديدي التميز والاختلاف، فقد فقدنا من قمة الهرم محمد عابد الجابري من المغرب
(مايو 2010)، ومحمد أركون من الجزائر (سبتمبر 2010)، وفؤاد زكريا من مصر (مارس 2010).
وفقدنا من منتصف الهرم من مروجي الأفكار الكبار الذين ربما شاركوا منتجيها في بعض التفاصيل، نصر حامد أبو زيد من مصر (يوليو 2010) وأحمد البغدادي من الكويت (أغسطس 2010)، وغازي القصيبي من السعودية (أغسطس 2010)، ولئن كانت خسارتنا فادحة بمنتجي الأفكار وبمروجيها في عالمنا العربي، فإن ما يمنحنا شيئا من السلوان هو أن نرى جهدهم وتعبهم لم يذهب أدراج الرياح، بل بقي لهم من محبيهم والمتأثرين بهم أجيال ستحمل الراية وتدافع عنها، وكما تلقّت الأفكار السابقة منهم وأيدتها فإنها ستتلقى الأفكار الللاحقة من غيرهم وتطورها، وستنضج الجميع على نار الفكر والثقافة، وعلى موقد التاريخ الذي لا ينطفئ، وعلى شروط الجغرافيا التي لا تخفى على لبيب.
ولهذا لا بد أن يبقى الأمل معقودا على أن في الأجيال القادمة نابهين ومتميزين، قادرون على تجاوز هذه المصائب والتعويض عنها بما هو أفضل وأكمل، وعلينا الانتظار ليخرج لنا من بين ركام المصائب مبدعون يرتقون لرأس الهرم، ومكافحون يمتلكون وسطه، ومتلقون أكثر وعيا وحضورا وانتشارا، من باحث مغمور هنا، ومفكر مغموط الحق هناك، وشباب يمتلك ناصية المعرفة والبحث، وهو قادر على تقلد مسؤولية التغيير والتأثير، وتعبئة الأمكنة المميزة التي تركها الراحلون الكبار.
كان مشروع الجابري كبيرا ومؤثرا ــ أقصد مشروع العقل العربي ــ الذي أصدر فيه أربعة كتب كبيرة هي «التكوين» و «البنية» و «العقل الأخلاقي» و «العقل السياسي»، وسبقها بمنهجه فيها الذي أعلنه في كتابه «نحن والتراث»، وختمها بمشروعه الأخير حول القرآن الكريم، وهو مشروع جاء في آخر العمر حيث تخبو جمرة الإبداع وتنطفىء نار التغيير والتجديد.
أما مشروع أركون فقد كان معنيا بالتفتيش عن الأنسنة في التراث العربي والإسلامي، وكانت أفكاره ورؤاه شديدة القوة في نقد تراثنا المليء بالخطل المعرفي والانحراف الفكري، والتشابكات المعقدة دينيا وسياسيا وغيرها، كما أنه نقد طال بسياطه العلمية واقعنا الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي، ولئن كان مشروعه أقل تأثيرا وانتشارا من سابقه في حديثنا هذا ــ أي الجابري ــ فذلك لأنه انحاز للبحث عن الحقيقة وحدها دون كثير نظر عن التأثير في الواقع وإصلاحه، وهو ما يعني انحيازه بالتالي للمستقبل والغد، ولقناعاته المطلقة أكثر مما انحاز لمحاولة التغيير والتأثير كما كان سابقه الجابري يسعى ويكدح.
أما فؤاد زكريا هذا المفكر العربي الكبير الذي لم ينل حقه من الإشادة والذكر، والذي اقتصر تأثيره على النخب دون غيرهم، فقد كان ذا أثر مذكور غير منكور ومشروع فكريٍ متواصل يجمعه الالتزام والاستقرار والجدية، فمؤلفاته تبين عن فكر متفرد، وترجماته تبين عن وعي متميز بالفلسفة القديمة والحديثة ومدارسها المتنوعة، ومؤلفاته في نقد الظواهر العربية والإسلامية كالصحوة وغيرها كل هذا ينبئ بمكانته ومقامه الرفيع، ولهذا يجب أن نبقي ذكراه حية وأسئلته وإشكالاته مجالا للتدوال والنقاش.
كما هو معتاد على طول التاريخ والجغرافيا فمروجو الأفكار هم أكثر انتشارا وتأثيرا من صانعيها ومنتجيها، لأنهم يمتلكون القدرة على الوعي بهذه الأفكار وإدراكها، وهم أكثر قدرة على ترويجها ونشرها على أوسع نطاقٍ وفق أساليب ووسائل تختلف من مروج لآخر، ومن مكان لغيره، وعلى سبيل المثال فنصر حامد أبو زيد كمروج للفكر حظي بتأثير أكبر على قارئيه وبردود أفعالٍ عاتية وغير معقولة من مناوئيه، أودت به لحكم محكمة بلهاء حكمت حكما قضائيا جائرا بالتفريق بينه وبين زوجه،
ويمكن قول الأمر ذاته عن الدكتور أحمد البغدادي الذي كان مروج أفكار كبيرا ومناضلا شرسا دون قناعاته وقد ناله ما ناله من الأذى والتنكيل فلم يستكن لحظة بل بقي على مبادئه وقناعاته حتى حان الموت ووجب الرحيل.
بقي لدينا من رأس الهرم ومنتجي الأفكار في العالم العربي عبد الله العروي، وعبد المجيد الشرفي، وجورج طرابيشي ونحوهم، وبقي لدينا من مروجي الأفكار الكثيرون من أمثال هاشم صالح والسيد ولد أباه ونحوهما.
ويظل لدينا أمل بأسماء أخرى كرضوان السيد ومشروعه الذي لم يكتمل بعد، وحسن حنفي بكل تقلباته وتغيراته، ومحمد جابر الأنصاري رغم حرصه غير المفهوم على الحياد والتوسط، وصادق جلال العظم رغم عزلته وإقلاله، وأسماء أخرى هنا وهناك تحتاج أكثر ما تحتاج لإثبات نفسها وحضورها عبر مشاريع كبرى قادرة على التطور والتأثير أولا، والتأكيد على القدرة على الاستيعاب والتجاوز ثانيا، وفي جعبة الزمان المعاصر الكثير وفي إهابه أسماء قادرة على الحضور والتجاوز..
إن المشاريع الفكرية الكبرى والرجال القادرين على خلق فكر جديد يعانون في عالمنا العربي والإسلامي من قلة الدعم والـتأييد، ومن ندرة الفهم والاستيعاب، ولذلك تظل مشاريعهم ــ على الأغلب ــ رهنا للمسؤول السياسي وصاحب رأس المال الداعم.
إننا كأمة بحاجة ماسة لدعم كل نابه، وتأييد كل نابغ، وتوفير الحياة الكريمة لهم، واستيعاب تجاوزاتهم أو أخطائهم حسب ما نظن، حتى يلقوا بأحجارهم الكريمة صغرت أم كبرت في بركة تفكيرنا الراكدة وبئر ثقافتنا الآسن.
ولكم يجني على ثقافتنا بعض مروجي الأفكار لدينا، وذلك حين يعمدون إلى أحدث النظريات الغربية فيطبقونها على عجل على ثقافتنا العربية، وينتقون في تطبيقهم فيركزون على تراثنا بوصفه نثرا أو شعرا عربيا، ويبعدون كل البعد عن التعرض للشأن الديني وخطابه وتطوره التاريخي وصراعاته المعروفة، وهم أكثر بعدا عن الشأن السياسي في تراثنا، طلبا للسلامة وبحثا عن المكانة.
Bjad33@gmail.com
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة
ويشمل هذا كله المشاركة في التغيير، سواء كان التغيير فكريا وهو شديد الأهمية أم سياسيا وهو لا يقل أهمية عن سابقه، أم كان التغيير في مجالات أخرى لها من الأهمية مكان مستحق كالإعلام والصحافة والدراما، أو لها من التأثير محل بين كالرواية أو القصة أو المقالة أو غيرها من فنون القول وإبداعات الحروف.
جر لهذا الحديث أننا نستطيع أن نعد هذا العام في عالمنا العربي والإسلامي عام الخسارات الكبرى على مستوى الفكر والفلسفة والثقافة، فقد فقدنا مفكرين كبار ممن ينتج الأفكار الجديدة والمشاريع الخلاقة، أي من يمثلون رأس الهرم في الإنتاج المعرفي والفلسفي، وفقدنا بعض مروجي الأفكار الناشطين في بثها والمنافحين دفاعا عنها.
لئن كانت الثقافة والفلسفة أشبه بالهرم ذي الطبقات الثلاث، بحيث يعلوه في الطبقة الأولى التي تمثل رأس الهرم منتجو الأفكار أي الفلاسفة أو على مستوى أقل المفكرون، ويتوسطه في الطبقة الثانية مروجوا الأفكار وناشروها، ويقع في قاعدته المتلقون بشتى تصنيفاتهم، فإننا في هذا العام فقدنا من رأس الهرم المعرفي رجالا شديدي التميز والاختلاف، فقد فقدنا من قمة الهرم محمد عابد الجابري من المغرب
(مايو 2010)، ومحمد أركون من الجزائر (سبتمبر 2010)، وفؤاد زكريا من مصر (مارس 2010).
وفقدنا من منتصف الهرم من مروجي الأفكار الكبار الذين ربما شاركوا منتجيها في بعض التفاصيل، نصر حامد أبو زيد من مصر (يوليو 2010) وأحمد البغدادي من الكويت (أغسطس 2010)، وغازي القصيبي من السعودية (أغسطس 2010)، ولئن كانت خسارتنا فادحة بمنتجي الأفكار وبمروجيها في عالمنا العربي، فإن ما يمنحنا شيئا من السلوان هو أن نرى جهدهم وتعبهم لم يذهب أدراج الرياح، بل بقي لهم من محبيهم والمتأثرين بهم أجيال ستحمل الراية وتدافع عنها، وكما تلقّت الأفكار السابقة منهم وأيدتها فإنها ستتلقى الأفكار الللاحقة من غيرهم وتطورها، وستنضج الجميع على نار الفكر والثقافة، وعلى موقد التاريخ الذي لا ينطفئ، وعلى شروط الجغرافيا التي لا تخفى على لبيب.
ولهذا لا بد أن يبقى الأمل معقودا على أن في الأجيال القادمة نابهين ومتميزين، قادرون على تجاوز هذه المصائب والتعويض عنها بما هو أفضل وأكمل، وعلينا الانتظار ليخرج لنا من بين ركام المصائب مبدعون يرتقون لرأس الهرم، ومكافحون يمتلكون وسطه، ومتلقون أكثر وعيا وحضورا وانتشارا، من باحث مغمور هنا، ومفكر مغموط الحق هناك، وشباب يمتلك ناصية المعرفة والبحث، وهو قادر على تقلد مسؤولية التغيير والتأثير، وتعبئة الأمكنة المميزة التي تركها الراحلون الكبار.
كان مشروع الجابري كبيرا ومؤثرا ــ أقصد مشروع العقل العربي ــ الذي أصدر فيه أربعة كتب كبيرة هي «التكوين» و «البنية» و «العقل الأخلاقي» و «العقل السياسي»، وسبقها بمنهجه فيها الذي أعلنه في كتابه «نحن والتراث»، وختمها بمشروعه الأخير حول القرآن الكريم، وهو مشروع جاء في آخر العمر حيث تخبو جمرة الإبداع وتنطفىء نار التغيير والتجديد.
أما مشروع أركون فقد كان معنيا بالتفتيش عن الأنسنة في التراث العربي والإسلامي، وكانت أفكاره ورؤاه شديدة القوة في نقد تراثنا المليء بالخطل المعرفي والانحراف الفكري، والتشابكات المعقدة دينيا وسياسيا وغيرها، كما أنه نقد طال بسياطه العلمية واقعنا الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي، ولئن كان مشروعه أقل تأثيرا وانتشارا من سابقه في حديثنا هذا ــ أي الجابري ــ فذلك لأنه انحاز للبحث عن الحقيقة وحدها دون كثير نظر عن التأثير في الواقع وإصلاحه، وهو ما يعني انحيازه بالتالي للمستقبل والغد، ولقناعاته المطلقة أكثر مما انحاز لمحاولة التغيير والتأثير كما كان سابقه الجابري يسعى ويكدح.
أما فؤاد زكريا هذا المفكر العربي الكبير الذي لم ينل حقه من الإشادة والذكر، والذي اقتصر تأثيره على النخب دون غيرهم، فقد كان ذا أثر مذكور غير منكور ومشروع فكريٍ متواصل يجمعه الالتزام والاستقرار والجدية، فمؤلفاته تبين عن فكر متفرد، وترجماته تبين عن وعي متميز بالفلسفة القديمة والحديثة ومدارسها المتنوعة، ومؤلفاته في نقد الظواهر العربية والإسلامية كالصحوة وغيرها كل هذا ينبئ بمكانته ومقامه الرفيع، ولهذا يجب أن نبقي ذكراه حية وأسئلته وإشكالاته مجالا للتدوال والنقاش.
كما هو معتاد على طول التاريخ والجغرافيا فمروجو الأفكار هم أكثر انتشارا وتأثيرا من صانعيها ومنتجيها، لأنهم يمتلكون القدرة على الوعي بهذه الأفكار وإدراكها، وهم أكثر قدرة على ترويجها ونشرها على أوسع نطاقٍ وفق أساليب ووسائل تختلف من مروج لآخر، ومن مكان لغيره، وعلى سبيل المثال فنصر حامد أبو زيد كمروج للفكر حظي بتأثير أكبر على قارئيه وبردود أفعالٍ عاتية وغير معقولة من مناوئيه، أودت به لحكم محكمة بلهاء حكمت حكما قضائيا جائرا بالتفريق بينه وبين زوجه،
ويمكن قول الأمر ذاته عن الدكتور أحمد البغدادي الذي كان مروج أفكار كبيرا ومناضلا شرسا دون قناعاته وقد ناله ما ناله من الأذى والتنكيل فلم يستكن لحظة بل بقي على مبادئه وقناعاته حتى حان الموت ووجب الرحيل.
بقي لدينا من رأس الهرم ومنتجي الأفكار في العالم العربي عبد الله العروي، وعبد المجيد الشرفي، وجورج طرابيشي ونحوهم، وبقي لدينا من مروجي الأفكار الكثيرون من أمثال هاشم صالح والسيد ولد أباه ونحوهما.
ويظل لدينا أمل بأسماء أخرى كرضوان السيد ومشروعه الذي لم يكتمل بعد، وحسن حنفي بكل تقلباته وتغيراته، ومحمد جابر الأنصاري رغم حرصه غير المفهوم على الحياد والتوسط، وصادق جلال العظم رغم عزلته وإقلاله، وأسماء أخرى هنا وهناك تحتاج أكثر ما تحتاج لإثبات نفسها وحضورها عبر مشاريع كبرى قادرة على التطور والتأثير أولا، والتأكيد على القدرة على الاستيعاب والتجاوز ثانيا، وفي جعبة الزمان المعاصر الكثير وفي إهابه أسماء قادرة على الحضور والتجاوز..
إن المشاريع الفكرية الكبرى والرجال القادرين على خلق فكر جديد يعانون في عالمنا العربي والإسلامي من قلة الدعم والـتأييد، ومن ندرة الفهم والاستيعاب، ولذلك تظل مشاريعهم ــ على الأغلب ــ رهنا للمسؤول السياسي وصاحب رأس المال الداعم.
إننا كأمة بحاجة ماسة لدعم كل نابه، وتأييد كل نابغ، وتوفير الحياة الكريمة لهم، واستيعاب تجاوزاتهم أو أخطائهم حسب ما نظن، حتى يلقوا بأحجارهم الكريمة صغرت أم كبرت في بركة تفكيرنا الراكدة وبئر ثقافتنا الآسن.
ولكم يجني على ثقافتنا بعض مروجي الأفكار لدينا، وذلك حين يعمدون إلى أحدث النظريات الغربية فيطبقونها على عجل على ثقافتنا العربية، وينتقون في تطبيقهم فيركزون على تراثنا بوصفه نثرا أو شعرا عربيا، ويبعدون كل البعد عن التعرض للشأن الديني وخطابه وتطوره التاريخي وصراعاته المعروفة، وهم أكثر بعدا عن الشأن السياسي في تراثنا، طلبا للسلامة وبحثا عن المكانة.
Bjad33@gmail.com
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة