في حياتي، خارج الرواية ومن الداخل أيضا التقيت عشرات الروائيات والروائيين ممن يتناولون آخرين بإبداع وجدارة أدبية.. لكن روائية مثل دوريس لوسينج وعلى مدى ما يقارب نصف قرن إلا قليلا من السنوات كانت تعيش متوارية خلف ظل روائية أخرى إلى أن حصلت في نهاية المطاف على جائزة نوبل عام 2007.
دأبت دوريس لوسينج بتناولاتها الروائية على تكريس لحظات القلق من القريب الآخر، كما عبرت أيضا وبجدارة عن الرتابات المملة، إذ تنتشر الأخيرة في ذاكرة الإنسان أثناء ممارسته القلق ومن بعده تاركة وراءها فيضا لا ينقطع من توقعات اليأس، ناهيك عن الحنين تجاه حب خالص لا يعرف الإنسان أين يجده على وجه التحديد.
في مذكراتها ذات مرة كتبت هذه الروائية وبرشد بالغ، على لسان روائية أخرى، هكذا كتبت:
«ليس الرعب الذي يطل برأسه في كل مكان - هو الذي يقتل فينا مشاعر الإحساس بالأمن، ولا الخوف من مواجهته. الأمر أكبر من ذلك وأكثر تعقيدا، فالناس يدركون أنهم يعيشون في مجتمع يعاني سكرات الموت، إن لم يكن قد أدركه الموت بالفعل، إنهم يكفرون بالعواطف، لأنهم يعرفون أن الغاية من وراء العواطف هي السلطة والمال ومتاع آيل إلى هلاك. وهم يعملون، ويزدرون ما يعملون، فيخبو وهج أرواحهم.. ويحبون، ولكنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أن حبهم ليس حبا خالصا، أو هو بعض حب، فيصيرون أجسادا بلا أرواح».
– آنا وولف في «الدفتر الذهبي».
وعلى صعيد روائي ليس ببعيد عن القصة نفسها، تستهل دوريس ليسينج أشهر رواياتها بعبارة على نحو (كانت المرأتان وحيدتين بمسكنهما في لندن)، ومن ثم تتوالى سرديات القلق بتناولات الرعب من الوحدة، وكيف تعمل فضاءات التفرد الآيل إلى مكان مغلق بزمن لا تمدد فيه من الداخل إلى لحظات من الحصار القاتل.
أول نتاج لهذه الأفكار الروائية يعود إلى عام 1962م، ولكن الموقف الروائي الذي كان واعدا في حينه، يعد الآن أحد الروائع الأدبية في القرن الواحد والعشرين.
ومع ذلك وبه فرواية كانتا وحيدتين في لندن تتناول حياة آنا وولف، وهي كاتبة تعيش وابنتها معا، وتقومان من آن لآخر بتأجير إحدى الغرف ليس بغرض البحث عن مصدر للدخل وإنما سيرا على عادات المجتمع الإنجليزي.
غير أن روائية الظل آنا وولف.. والتي تعكس من داخل الواقع الروائي أبعادا حقيقة عن قصة المؤلفة ليسينج، كانت تعاني داخل العمل الروائي فترة من نضوب القريحة عقب النجاح الهائل الذي حظيت به روايتها الأولى عن جماعة من الشيوعيين في أفريقيا إبان الاستعمار، وتسعى باحثة عن طريقة للجمع بين الطبائع المتناقضة التي تمزق شخصيتها وتجعل حياتها عذابا مقيما لا يحتمل، وتقرر آنا «خوفا من الوقوع في حالة من الضياع والتشتت.. خوفا من الانهيار» أن تحتفظ بأربعة دفاتر، تستخدم كلا منها في تسجيل أحد عناصر حياتها.
كان الدفتر الأسود يخص تجاربها في أفريقيا والأحمر لشؤون السياسة الراهنة وقتئذ، والأصفر تكتب فيه رواية خيالية هي بطلتها، وأما الأزرق فقد كانت تمارس من خلاله الكتابة بواقع سردي عن كل شيء خاص، وأزرق أيضا يمس حياتها الدقيقة والخاصة.. ووفقا لآليات الضبط الإنجليزي المحافظ، ربما كانت حواراتها الخاصة ذهنية، إذ يتوافر في الدفتر الأزرق شيء ليس بالضرورة درجة التفصيلات المملة.. وهكذا ربما كانت روائية الظل من داخل واقعها السردي تكشف شيئا خاصا بنمط الوقائع عن يوميات وليال مثيرة في حياة الروائية على نحو حميمي وربما يكون في بعضه خاصا دون الانزلاق بتماس مع خطوط حميمية.
هنا فقط تتوقف روائية الظل عن الكتابة وكذلك أيضا تتوقف الروائية الأصل من خارج الافتراض الروائي.. عن ممارسة التأثير بأثر رجعي في الإملاء على آنا وولف.. فلكل رواية فواصل ونقطة وقف.. ولكن حتى عند نقطة الوقف هذه، لا تتوقف الرواية وإنما تستمر في حلقة أخرى عبر تداعيات من الدراما الإغريقية المسروقة.. إنها لحظة الطهر من الأخطاء الدرامية العالقة في وجدان الروائي الساعي إلى تدمير ذاته بألوان الطيف العادي أو ما دخل في تركيبه وطيه، وهو باعتقاده للوهلة الأولى إنما كان يثير جدلا رائعا من نوعه.. إنها نفس الكاثيريسيس التي قال عنها أرسطو من قبل ميلاد سيدنا المسيح بحوالي ثلاثة قرون وما هو من السنوات أكثر وأكثر.
ولهذا السبب العالق في ذاكرة التركيب الروائي غربا وكما هو آيل إليه شرقا، نجد أن روائية الظل تجمع شتات نفسها..
وتعبر عن ذاتها في دفتر واحد، وبذلك تتقبل انعتاقها من وهم الشيوعية، وأن تتعافى من آلام الصدمة العاطفية والخيانة الزوجية، وأن تتعايش مع الاضطرابات التي تتسم بها علاقات الصداقة والعلاقات العائلية.
يا إلهي إنها قصة رائعة جدا بمقاييس الستينيات وتافهة أيضا بمقاييس ما هو آيل إليه العقل الإنساني.
لكنني كإنسان يعمل بمهنية يتوافر فيها بعض أدوات الشرط ليس إلا، أرى أن كل هموم الروائية الأولى كانت تنصب أساسا على فكرة الدعاية الأدبية للموقف الشيوعي في أفريقيا، وكما كان نيلسون مانديلا في حينه يرفض أمام المحكمة البيضاء الإقرار بأنه شيوعي من عدمه لأنه وفق آليات التحقيق لم يكن شيوعيا قط، كانت الروائية دوريس في حالة عشق مع المد الشيوعي، ولكنها تخجل الإقرار بأنها شيوعية إنجليزية، فعمدت للدفع بآنا وولف داخل كراريسها بألوان الطيف على مستوى النضال والخوف والجنس وكل شيء يتصل بتفاصيلها اليومية.. وهكذا بقيت خارج العمل الروائي رائعة ومهذبة وإنجليزية بيضاء.. ومحافظة جدا وفق أدبيات نوبل للأعمال الروائية!!!
Title: The golden notebook
Author: Doris lessing
دأبت دوريس لوسينج بتناولاتها الروائية على تكريس لحظات القلق من القريب الآخر، كما عبرت أيضا وبجدارة عن الرتابات المملة، إذ تنتشر الأخيرة في ذاكرة الإنسان أثناء ممارسته القلق ومن بعده تاركة وراءها فيضا لا ينقطع من توقعات اليأس، ناهيك عن الحنين تجاه حب خالص لا يعرف الإنسان أين يجده على وجه التحديد.
في مذكراتها ذات مرة كتبت هذه الروائية وبرشد بالغ، على لسان روائية أخرى، هكذا كتبت:
«ليس الرعب الذي يطل برأسه في كل مكان - هو الذي يقتل فينا مشاعر الإحساس بالأمن، ولا الخوف من مواجهته. الأمر أكبر من ذلك وأكثر تعقيدا، فالناس يدركون أنهم يعيشون في مجتمع يعاني سكرات الموت، إن لم يكن قد أدركه الموت بالفعل، إنهم يكفرون بالعواطف، لأنهم يعرفون أن الغاية من وراء العواطف هي السلطة والمال ومتاع آيل إلى هلاك. وهم يعملون، ويزدرون ما يعملون، فيخبو وهج أرواحهم.. ويحبون، ولكنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أن حبهم ليس حبا خالصا، أو هو بعض حب، فيصيرون أجسادا بلا أرواح».
– آنا وولف في «الدفتر الذهبي».
وعلى صعيد روائي ليس ببعيد عن القصة نفسها، تستهل دوريس ليسينج أشهر رواياتها بعبارة على نحو (كانت المرأتان وحيدتين بمسكنهما في لندن)، ومن ثم تتوالى سرديات القلق بتناولات الرعب من الوحدة، وكيف تعمل فضاءات التفرد الآيل إلى مكان مغلق بزمن لا تمدد فيه من الداخل إلى لحظات من الحصار القاتل.
أول نتاج لهذه الأفكار الروائية يعود إلى عام 1962م، ولكن الموقف الروائي الذي كان واعدا في حينه، يعد الآن أحد الروائع الأدبية في القرن الواحد والعشرين.
ومع ذلك وبه فرواية كانتا وحيدتين في لندن تتناول حياة آنا وولف، وهي كاتبة تعيش وابنتها معا، وتقومان من آن لآخر بتأجير إحدى الغرف ليس بغرض البحث عن مصدر للدخل وإنما سيرا على عادات المجتمع الإنجليزي.
غير أن روائية الظل آنا وولف.. والتي تعكس من داخل الواقع الروائي أبعادا حقيقة عن قصة المؤلفة ليسينج، كانت تعاني داخل العمل الروائي فترة من نضوب القريحة عقب النجاح الهائل الذي حظيت به روايتها الأولى عن جماعة من الشيوعيين في أفريقيا إبان الاستعمار، وتسعى باحثة عن طريقة للجمع بين الطبائع المتناقضة التي تمزق شخصيتها وتجعل حياتها عذابا مقيما لا يحتمل، وتقرر آنا «خوفا من الوقوع في حالة من الضياع والتشتت.. خوفا من الانهيار» أن تحتفظ بأربعة دفاتر، تستخدم كلا منها في تسجيل أحد عناصر حياتها.
كان الدفتر الأسود يخص تجاربها في أفريقيا والأحمر لشؤون السياسة الراهنة وقتئذ، والأصفر تكتب فيه رواية خيالية هي بطلتها، وأما الأزرق فقد كانت تمارس من خلاله الكتابة بواقع سردي عن كل شيء خاص، وأزرق أيضا يمس حياتها الدقيقة والخاصة.. ووفقا لآليات الضبط الإنجليزي المحافظ، ربما كانت حواراتها الخاصة ذهنية، إذ يتوافر في الدفتر الأزرق شيء ليس بالضرورة درجة التفصيلات المملة.. وهكذا ربما كانت روائية الظل من داخل واقعها السردي تكشف شيئا خاصا بنمط الوقائع عن يوميات وليال مثيرة في حياة الروائية على نحو حميمي وربما يكون في بعضه خاصا دون الانزلاق بتماس مع خطوط حميمية.
هنا فقط تتوقف روائية الظل عن الكتابة وكذلك أيضا تتوقف الروائية الأصل من خارج الافتراض الروائي.. عن ممارسة التأثير بأثر رجعي في الإملاء على آنا وولف.. فلكل رواية فواصل ونقطة وقف.. ولكن حتى عند نقطة الوقف هذه، لا تتوقف الرواية وإنما تستمر في حلقة أخرى عبر تداعيات من الدراما الإغريقية المسروقة.. إنها لحظة الطهر من الأخطاء الدرامية العالقة في وجدان الروائي الساعي إلى تدمير ذاته بألوان الطيف العادي أو ما دخل في تركيبه وطيه، وهو باعتقاده للوهلة الأولى إنما كان يثير جدلا رائعا من نوعه.. إنها نفس الكاثيريسيس التي قال عنها أرسطو من قبل ميلاد سيدنا المسيح بحوالي ثلاثة قرون وما هو من السنوات أكثر وأكثر.
ولهذا السبب العالق في ذاكرة التركيب الروائي غربا وكما هو آيل إليه شرقا، نجد أن روائية الظل تجمع شتات نفسها..
وتعبر عن ذاتها في دفتر واحد، وبذلك تتقبل انعتاقها من وهم الشيوعية، وأن تتعافى من آلام الصدمة العاطفية والخيانة الزوجية، وأن تتعايش مع الاضطرابات التي تتسم بها علاقات الصداقة والعلاقات العائلية.
يا إلهي إنها قصة رائعة جدا بمقاييس الستينيات وتافهة أيضا بمقاييس ما هو آيل إليه العقل الإنساني.
لكنني كإنسان يعمل بمهنية يتوافر فيها بعض أدوات الشرط ليس إلا، أرى أن كل هموم الروائية الأولى كانت تنصب أساسا على فكرة الدعاية الأدبية للموقف الشيوعي في أفريقيا، وكما كان نيلسون مانديلا في حينه يرفض أمام المحكمة البيضاء الإقرار بأنه شيوعي من عدمه لأنه وفق آليات التحقيق لم يكن شيوعيا قط، كانت الروائية دوريس في حالة عشق مع المد الشيوعي، ولكنها تخجل الإقرار بأنها شيوعية إنجليزية، فعمدت للدفع بآنا وولف داخل كراريسها بألوان الطيف على مستوى النضال والخوف والجنس وكل شيء يتصل بتفاصيلها اليومية.. وهكذا بقيت خارج العمل الروائي رائعة ومهذبة وإنجليزية بيضاء.. ومحافظة جدا وفق أدبيات نوبل للأعمال الروائية!!!
Title: The golden notebook
Author: Doris lessing