-A +A
عبدالله بن بجاد العتيبي
نجاد يهتف بالمقاومة في لبنان، وبن لادن يهتف بالجهاد في مكان مجهول، والمقدسي ــ منظر السلفية الجهادية ــ يهتف بملة إبراهيم، وبعض آيات الله يهتفون بالمهدي المنتظر، والبعض يرفع التصدي والصمود في وجه إسرائيل، والبعض الآخر يقدم العقل والسياسة، وثمة من ينفخ في كير الطائفية ويعلي من شأنها، وآخرون يتبنون التعايش ويتغنون بقيمته، والوطنية لها أنصارها، والقومية لها مؤيدوها والأممية لها متبنوها، وهكذا ففي منطقتنا ازدحام للمفاهيم المتناقضة، والتي بغض النظر عمن يتبناها فهي شديدة التأثير بالغة الأثر، وصراعاتها معروفة على كافة المستويات السياسي منها والاقتصادي، الديني والثقافي، الطائفي والمذهبي.
ثمة صراع بين المفاهيم في الشرق الأوسط، بعضها ينحاز ذات اليمين والآخر ينحاز ذات الشمال، وثمة طريقتان لرؤية علاقتنا ببعضنا وبالعالم وبالمنطقة عبر المفاهيم، إما المعتمدة والمرسخة والقديمة، وإما الطارئة والمستحدثة والجديدة، ففي جهة نجد مفاهيم الانفتاح والحرية والإصلاح والحوار ونحوها، وفي الأخرى نلقى مفاهيم كالوسطية والاعتدال وما رادفها.
إن المفاهيم الأولى تحيل إلى ثقافة العصر وآراء المتقدمين من مفكريه ومثقفيه وهي مفاهيم تنتمي لهذا العالم ومستقبله من أقصاه إلى أقصاه، في حين تحيل الثانية إلى مفاهيم لزجة جلها يمثل غثا وغثاء، ملأت به الجماعات الإسلامية المسيسة العالم حد النفور، ولئن احتفظت المفاهيم الأولى بجدتها وأهميتها في عالم اليوم، نظرا للحورات العميقة والصريحة والقوية حولها على كافة المستويات، فإن المفاهيم الثانية قد تم تلويثها والعبث بها بشكل كبير.
من هنا تأتي قوة المشاريع التي تركز على الحوار كمفهوم بناء والتسامح والسلام ونحوها من المفاهيم، كما حدث في السعودية على سبيل المثال، ولئن كان الداخل مرآة للخارج فقد تم إطلاق مشروع «الحوار الوطني» المستمر حتى اليوم، فالجدوى التي كانت ترجى من هذا المشروع في بداياته ليست مثلها في نهايته ــ حتى الآن على الأقل ــ ومقارنة سريعة بين أوله وآخره تبين عن المستوى الذي كان يحلق فيه والمستوى الذي وصل إليه اليوم، فمن الكليات إلى التفاصيل، ومن الشأن العام الكبير إلى الشأن العام الصغير، وأحسب أن العكس هو الذي كان ينبغي أن يسيطر على مشروع الحوار الوطني، بمعنى، أن يتم الانطلاق من الرؤى التي أطلقتها الاجتماعات الأولى فيتم تفصيلها وتقنينها والسعي لضخها في المجتمع، بدلا من الدخول في تفاصيل صغيرة تفقد المشروع قيمته وأساسه.
إن طبيعة العصر تخبرنا أن الانفتاح مفهوم أقوى من الاعتدال، والحرية مفهوم أقوى من الوسطية، وقل مثل هذا في مفهوم الإصلاح ومفهوم الحوار وغيرهما من المفاهيم التي تكتسب قوة ذاتية يدعمها العالم والواقع ويحدو بها المستقبل، وما لم نجد التعامل مع هكذا مفاهيم، فإننا سنظل خلف الركب العالمي دائما، متلقين لا فاعلين، متأثرين لا مؤثرين.
ربما يغفل البعض عن أن المفاهيم تلعب دورا محوريا في حراك الشعوب، وأنها شديدة التأثير والحساسية، وبالغة الأثر والإثر ــ كما تقدم ــ ومن هنا فإن ما يغلب منها على مجتمع أو ثقافة ما، يكون له الحكم الغالب على توجه المجتمع الذي تبناه، أو الثقافة التي نشرته، أو الدولة التي رعته، أو المؤثرين من شتى الأصناف الذين اعتمدوه ودافعوا عنه.
في التاريخ الأوروبي حين غلب مفهوم النهضة مفهوم المحافظة تغير تاريخ أوروبا، ثم حين غلب مفهوم التنوير كل المفاهيم البالية قبله تغير تاريخ العالم، وهكذا فالمفاهيم إما أن تكون في يقظة وتطور أو في نعاس وتخلف، إما أن تفتح آفاق المستقبل وإما أن تزيد من أغلال الماضي.
ثمة تساؤل جدير بالطرح والاهتمام، وهي من يقود من؟ ومن يسوق من؟ وبمعنى آخر، هل الواعي يقود الجاهل أم الجاهل يقود الواعي؟ وواقعيا اليوم، هل القائد السياسي يوجه الشعوب أم الشعوب توجه القائد؟ وأيهما أعظم تأثيرا وأبقى أثرا؟
القائد الواعي يقود شعبه، والقائد غير الواعي يقوده شعبه، إن الفرق الكبير هو من أوعى من من؟ هل يكفي الصراخ والزخم الاجتماعي للتأكيد على صحة هذا المفهوم أو ذاك؟ أم أن التطوير والتغيير يشكل صيرورة تاريخية، التعامل على أساسها خير من التغافل عنها.
في منطقتنا يتصرف البعض وكأننا في عماية ظلماء، لا نعرف شيئا ولا ندرك شيئا، لا نعرف ما جرى، ولا ندرك ما يجري، ولا يمكننا التنبؤ بما سيحدث، بينما بمتسع الكثيرين منا معرفة ما جرى وإدراك ما يجرى والتنبؤ بما سيكون، فالمعلومة أصبحت متاحة للجميع، عبر وسائل الاتصال الحديثة، وتحليلها والبناء عليها أصبح مهمة يختلف فيها الفرقاء ويتنازع فيها المختلفون، لم يعد الناس عميانا كما كانوا، ولكن من جهة أخرى لقد أصبحت كل الشؤون بمتناول الجميع، الواعي والسادر، الحصيف والجاهل، المثقف وغيره.
لدينا الكثير من المفاهيم المتصارعة، فمفاهيم كالمقاومة والجهاد والصراع، تنافسها مفاهيم كالحق والسلم والحوار، وتتبع المفاهيم وسائل نشرها واعتمادها وتطبيقها وتنفيذها، وهي وسائل تعبر عن نفسها في شتى المجالات، منها السياسي ومنها الديني ومنها الثقافي ومنها الاجتماعي وغيرها، ولئن كانت الوسائل مؤثرة ومنفذة فالمفاهيم هي الحاكمة والموجهة.
بكلمة، يمكن القول إن المفاهيم تحكم العالم، ما يسود منها وما يتنحى، ما يؤثر منها وما يتأثر، فالمفاهيم توجه الوعي، والوعي يوجه القرار سواء كان قرارا كبيرا أم صغيرا، عاما أم خاصا، جماعيا أم فرديا، وهي حين تنضج وتتواءم مع الواقع وأحداثه، والتاريخ ووقائعه، تصبح ذات سلطة تفوق جميع السلطات، وتتجاوز كل القيود.
اليوم، حين يخرب فكر القاعدة العالم فإن علينا أن نعرف أن خلف هذا التخريب مفاهيم عاثت في العالم الإسلامي سنين عددا، ولم تتم مناقشتها وتحريرها، ولم تجر محاكمتها لمفاهيم أخرى، ومن أمثلة تلك المفاهيم مفهوم الجهاد، ومفهوم الولاء والبراء، ومفهوم ملة إبراهيم، ومفهوم الدولة الدينية ومفهوم التكفير، وغيرها الكثير من المفاهيم، التي يجب أن تخضع اليوم للتدقيق والتمحيص وإعادة القراءة والتأويل.
السنة والشيعة هما مفهومان قبل أن يكونا حضورا بشريا على الأرض، سواء تمثل هذا الحضور في دولة أم في حزب أم في أقلية هنا أو هناك، ويتفرع عنها مفاهيم أخرى، مثل مفهومي الـ»نيو سنة» والـ»نيو شيعة» اللذين طرحهما العروي، وإذا اعتمدنا رؤية الجابري بأن المفهوم في التراث الإسلامي كان يعبر عنه الفقهاء والمتكلمون والأصوليون بتعبير «اسم جامع»، وإذا أخذنا بالاعتبار تفرع العلوم وتطورها المذهل وتحول كثير من المسكوت عنه أو اللامفكر فيه إلى مفكر فيه، فإننا سنكون أمام حصيلة ضخمة جدا من المفاهيم التراثية والمعاصرة.
وتبقى خيارتنا للمفاهيم تعكس رؤانا للمستقبل، وانحيازنا وتبنينا لبعض المفاهيم يعكس رؤيتنا للماضي والحاضر على حد سواء، والأمل كل الأمل أن تبقى خياراتنا المفاهيمية منحازة لغد طموح، لا لماض جموح، نالنا من جموحه الكثير من الأذى.
Bjad33@gmail.com


للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة