-A +A
محمد الصالحي
لهم فقط، أولئك الذين باعوا طموحهم بثمن بخس: راتب ضئيل يضمن لهم لقمة عيش المساء. أكتب مواسيا وأرتل معهم أنشودة الحياة التي تعرض بظهرها دوما عن كل مسكين.
كم هم أولئك الذين وقفت بهم أيامهم عند أدنى الشهادات، فيما طموحاتهم معلقة بأعلاها وأحلامهم كانت لا تغادر منصبا باسم رنان. خانتهم جيوبهم وتركتهم بين نارين: إما الشهادة ومعها الجوع، وإما الكفاف ومعه خسارة كل ما حلموا به ذات يوم. أكتب لـ(سعود) الذي صادفته عند باب المطار يستجدي راكبا هنا ويجادل آخر هناك ليوصله إلى حيث يريد. أكتب عنه وهو الذي ينام في يومه (ست ساعات)، والباقي موزع بين عمله ذي الألفي ريال، ورحلة العذاب بين المطار وأحياء جدة لإيصال زبائنه. ترك جامعته حين وصل لنصف المشوار، كان في رقبته زوجة وطفلان حين بدأ مشوار الجامعة. ورغم أنه كان يعرف جيدا حجم الخطأ وهو يتزوج باكرا إلا أنه لم يكن يريد أن يرفض لأمه وأبيه طلبهما ذلك. كان قلبه معلقا بتخصص صحي، تركه لصالح الكيمياء، فمعدله لا يكفي للعبور إلى هناك. تورط في نصف المشوار بالتزامات يعجز عن الوفاء بها ذوو الألوف. فضحى بطموحه لصالح لقمة عيشه، وأصبح اليوم موزعا في شوارع جدة، ويحكي قصته دوما لركابه الأطباء وأساتذة الجامعات والمهندسين و(محضري المختبرات).. وفي الأخيرة كان قلبه معلقا.
أكتب عن (محمد) الذي يسألني دوما: «إذا صار عمري 30 سنة أقدر أصير ممرض؟» سألته: ولماذا 30 عاما تحديدا؟ نظر إلى لباسه الأخضر وأجابني بحزن: لأني سأترك وظيفة الحراسة هذه وسأكون قد جمعت منها ما يكفي لدفع رسوم نصف المشوار في دراستي وحلم حياتي (التمريض). تورط (محمد) أيضا، وغادر الثانوية إلى باب البنك حارسا بثمن ضئيل. ودع طموحه وقرر حينها أن لقمة العيش أولى من الجلوس على مقعد دراسي، فعائلته لا تستطيع العيش بدون راتب عاجل منه. اليوم تحرك فيه ولعه القديم وحبه لـ(التمريض)، ولكن عندما غادرته الفرصة.. وانتصفت حياته.
مثل سعود ومحمد المئات. أتساءل معهما عمن يضع أبناء البلد دوما في وضعهما، ويسير بهما إلى ذات تجربتهما. أتساءل: هل سنبقى كذلك حتى نكتشف أننا أضعنا عشرات الآلاف من الفرص ليكون سعود ومحمد مبدعين بالفطرة والطموح، وليس بالمجاملة والواسطة. معهما أتساءل: كم شخصا يجلس على ذات المقاعد التي كانا يطمحان إليها، وهو مجبور ومحمول بالواسطة؟ في البلد ثروة وطنية موزعة على أبواب المطارات وفي حراسات البنوك وفي الطرقات الطويلة. ضاعت هناك من أجل لقمة العيش.
alsalhi@gmail.com


للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 245 مسافة ثم الرسالة