-A +A
عبدالله بن بجاد العتيبي
تطور العلوم المبهر في العصر الحديث جعل التخصص سيد الموقف، فانقرض لدى الأمم المتحضرة الفيلسوف الشامل الذي يغطي كافة الفنون والعلوم، وأصبح الفيلسوف عندهم هو المتخصص في مجالٍ معين والمشغول بفنٍ محددٍ يمكنه من تقديم جديدٍ ومفيد.
هذا هو عالم اليوم، وحين نعود لعالمنا الإسلامي نجد مشكلة راسخة على العكس من سير العالم، وهي تفشي الفتوى وتعملقها. فلم يزل المفتي يحسب أنه بقراءته لأبواب الفقه التقليدية يمكنه الإفتاء فيها جميعا، وأكثر، أنه بملكته الخاصة يمكنه أن يفتي في كل المستجدات في كل المجالات لأنه يسميها فقط بـ(النوازل)!
أشد من هذا وأفظع، أن بعض المفتين لم يكتفوا بإطلاق الفتاوى التي تشبه (الفاست فود)، بل إنهم يحسبون أنهم بزوا أذكياء العالم وعلماءه المتخصصين، وتجاوزوا قدرات البشر بإحاطتهم بكافة العلوم، وإداركهم لكل التخصصات، فالمفتي منهم يفتي في التنمية والاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة وغيرها من أصناف العلوم والفنون المتشعبة والمتطورة.
ينسى هؤلاء المفتون -فيما ينسون- أن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، وينسون أيضا حديث كثيرٍ من الفقهاء المعتبرين، أولئك الذين أكدوا على أن كثيرا من المجالات ليس للمفتي أي دورٍ في حساب النافع منها والضار، بل شأنها لغيرهم، وقد تكلم بعض العلماء عن بعض التخصصات التي شأن قياس مصلحتها ومفسدتها للمتخصص لا للفقيه، كالأمور العسكرية التي يعود أمرها للعسكر وقادتهم، وكبعض مسائل الاقتصاد كالبيوع التي يرجع شأن مصلحتها لأهل السوق لا للفقيه، ونستطيع بسهولة أن نضيف إليها اليوم العديد من المجالات التي لا يفهم المفتي أبعادها، فضلا عن أن يصدر فيها حكما عاما للناس، وأنه حين يفعل هذا فإنه يضر ولا ينفع، يخرب ولا يصلح، وفي هذا يقول ابن قيم الجوزية: «وإن أردت لا سياسة إلى ما نطق به الشرع، فغلط وتغليط.. فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريقٍ كان، فثم شرع الله ودينه».
قبل هذا كله كان الرسول الكريم يترك الشؤون لأهلها، ففي شأن الحرب قصة الحباب بن المنذر حين أشار عليه بتغيير موقعه العسكري في بدر فاستجاب، وفي الزراعة قصة تأبير النخل و«أنتم أعلم بشؤون دنياكم»، وقد تبعه عمر بن الخطاب كقائدٍ سياسيٍ يوكل بكل شأن أدرى الناس به، لا لمفت هنا ولا لفقيه هناك، فقد كان حين تواجهه مسائل شائكة في سياسة الدولة يأخذ برأي أهل الخبرة فقط، ومن هذا ما حيره من شأن إحصاء الناس لتوزيع أعطياتهم عليهم، فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا، وجندوا جنودا، فدَون ديوانا وجند جنودا، فأخذ عمر بقوله.
وحين يفتي البعض اليوم بتحريم عمل المرأة كاشيرة وتحريم بيعها للملابس الداخلية النسائية للنساء، ويرون أن يقوم الرجال بذلك بدل النساء، مخالفين للعقل والنقل، فإننا ينبغي أن نقول لهم بصراحة إن هذا ليس شأنكم وإنما شأن غيركم من المختصين.
لكل بلدٍ مؤسس، وبطبيعة الأشياء فالمؤسس رجل مختلف عن غيره من مجايليه، فلرؤيته مجال فسيح من النظر والتأثير، ولخياراته مساحات تدل على الوعي بحاضرٍ تعيسٍ ومستقبل يجب أن يكون متميزا -ولئن كانت هذه العبارات سهلة على الكاتب والقارئ- فإنها ليست كذلك في وقتها حين احتدام الخلاف، وتباين الرؤى، والصراع الكبير، ولحظة اتخاذ القرار.
إضافة لما تقدم، فإننا نجد النموذج السعودي في العصر الحديث يعطينا مثالا حيا على وعي القائد السياسي المختلف، ذلك أن لدى القائد السياسي وعيا أشمل لدى اتخاذ القرار المدعوم بلجانٍ متخصصةٍ ودراساتٍ مستفيضةٍ، ما يمنحه اختلافا تاما عن غيره من رجال الدين أو الاقتصاد أو الثقافة أو نحوهم.
وكشاهد على هذا الوعي لدى السياسي بطبيعة العلاقة بين الديني والسياسي -على سبيل المثال- تذكر مي الخليفة عن الإمام فيصل بن تركي أنه قال مخاطبا (بيلي) الإنجليزي الأول الذي دخل عاصمة الدولة في نجد: «إننا لا نخلط بين الدين والسياسة» سبز آباد ص 132.
و(في شأنٍ تنمويٍ) يقول الملك عبد العزيز لحافظ وهبة إنه التقى بعض كبار رجال الدين 1931م لما علموا بعزمه على إنشاء محطات لاسلكي في الرياض وبعض المدن الكبيرة في نجد، «فقالوا له: يا طويل العمر، لقد غشك من أشار عليك باستعمال التلغراف وإدخاله في بلادنا، وإن فلبي سيجر علينا المصائب، ونخشى أن يسلم بلادنا للإنجليز، فقال لهم الملك: لقد أخطأتم فلم يغشنا أحد، ولست -ولله الحمد- بضعيف العقل، أو قصير النظر لأخدع بخداع المخادعين، وما فلبي إلا تاجر. وكان وسيطا في هذه الصفقة، وإن بلادنا عزيزة علينا لا نسلمها لأحدٍ إلا بالثمن الذي استلمناها به. .
و(في الشأن التعليمي) ينقل حافظ وهبه نقاشه للبعض في اعتراضهم على تعليم الأولاد بسبب: الرسم واللغة الأجنبية والجغرافيا ما نصه: «وإن خالفنا فليست هذه أول مرةٍ يخالفنا فيها» يقصدون الملك عبد العزيز.
المحصلة هي أن اتساع العلوم وتفرق الفنون يجبران أي صانع قرارٍ أن يختار لكل تخصصٍ من يحسنه، ولكل شأنٍ من يدركه، فيطمئن بهذا على صحة قراره وتحقيقه للمنفعة التي يريد، فيؤدي الأمانة ويمنع الداخلين في ما لا يعنيهم.
Bjad33@gmail.com



للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة