-A +A
نجيب عصام يماني
يقول الإمام الغزالي في أفعال الحج «لا حظ للنفوس ولا أنس للطبع فيها ولا اهتداء للفعل إلى معانيها فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد وقصد الامتثال للأمر أي الشرع من حيث أنه أمر واجب الاتباع». فالحج على الوجه المشروع هو لمرة واحدة ولو كان للإنسان أقارب محاويج أو هناك فقراء تضطرهم الحاجة إلى نفقة، فالصدقة عليهم أفضل من الحج. ويشترط لمن أراد أن يقيم واجب الحج أن يترك المحرمات ويصلي الصلوات ويصدق الحديث ويؤدي الأمانة ولا يتعدى على أحد، فمن فعل شيئا من تلك المحرمات فقد يكون إثمه أعظم من أجره. يقول الحق سبحانه «الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج». ويقول عليه الصلاة والسلام «من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» فجعل الوعد بالمغفرة لمن لم يرفث ولم يفسق. فالحج ليس رحلة سياحية كما يعتقده البعض متشدقا أنه يحج كل عام مخالفا للأوامر ضاربا بها عرض الحائط، رغم تأكيد بعض أئمة العلم أن حجه غير مقبول فلا بد من التصريح بالحج وإلا اعتبر مخالفا لولي الأمر، ولا تجوز مخالفة ولي الأمر، وبالتالي فحجه باطل، علاوة على أن البعض لا يقيم الواجب، ولا يترك المحرم، ولا يحافظ على الأمانة، ويتعدى على الغير، ويسرق المال العام، ويكذب، ويدعي أنه مسحور، وأن أفعاله المحرمة مبررة بسحره، حتى الجن لم يسلموا من شره. فلا بد للمسلم حتى يحصل على أجر حجه كاملا أن يتطهر من كل ذنوبه وآثامه حتى يحصل على المغفرة المطلوبة ويرجع كيوم ولدته أمه، فقبول الحج يترتب عليه رد الديون إلى أهلها والحقوق إلى أصحابها والتوبة الصادقة. والحج المبرور هو الذي لا ترتكب فيه المعاصي ولا يدخل فيه ريال حرام. وهو أحد الأركان والأعمدة التي بني عليها الإسلام، فلا بد أن يتم حسب شروطه وأركانه. والحج فيه دلالة على إظهار التذلل والخضوع لله عز وجل وفي نفس الوقت هو تعظيم للبيت وهو من شعائر الله وتعظيمه هو تعظيم لله تعالى، فالخوض في لجة رحمته يكفر الذنوب ويدخل الجنة. وهو واجب عيني على كل من استجمع شرائط الوجوب، وهو مرة في العمر وليس في كل عام كما يحلو للبعض أن يفعله ويصر عليه مضيقا على الآخرين هذه الشعيرة، يفعلها من باب التباهي والتفاخر ضاربا بالأنظمة والقوانين عرض الحائط. روى مسلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خطب فقال «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل أكل عام فسكت النبي حتى قالها الرجل ثلاثا، فقال عليه الصلاة والسلام لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»، ويعلق ابن قدامة 3/217 على حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أن الواجب في الحج هو مرة واحدة أنه عبادة لا تتأدى إلا بكلفة عظيمة ومشقة شديدة بخلاف سائر العبادات، فلو وجب الحج في كل عام لأدى إلى الحرج وهو منتف شرعا. وقد اختلف العلماء في وجوبه على الفور أو التراخي، فعند أحمد أن من وجب عليه الحج فأمكنه فعله وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي إنه يجب الحج وجوبا لا وسعا فهو على التراخي وليس على الفور، وحجته بأن الحج فرض بعد الهجرة وأن النبي حج في السنة العاشرة من الهجرة فدل ذلك على جواز تأخير الحج، واحتجوا كذلك بأنه إذا أخره من سنة إلى سنة أو أكثر ثم قام بالحج فإنه يعتبر مؤديا للحج وليس قاضيا له بإجماع الفقهاء، ولو حرم التأخير أو فات وقته لكان حجه قضاء لا أداء كالذي يصلي بعد فوات وقتها تعتبر صلاته قضاء لها وليس أداء في وقتها. واحتج الحنفية بأن الأمر بالحج يحتمل الفور ويحتمل التراخي والحمل على الفور أحوط (عون المعبود 5/157 المغني 3/241 البدائع 2/119). ومن شروط الحج الاستطاعة وقد فسرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالزاد والراحلة لحديث ابن عمر (تحفة الأحوذي 3/542)، ولكن هل تثبت الاستطاعة ببذل الزاد والراحلة؟، اتفق الحنابلة والحنفية بأنه لا تثبت استطاعة الحج ببذل الزاد والراحلة سواء كان الباذل قريبا أو أجنبيا، وسواء بذل له الركوب والزاد أو بذل له مالا؛ لعدم تحقق شرط الاستطاعة فيه علاوة على أن البذل لا يخلو من المنة والمسلم لا يلزمه قبول ما فيه المنة ولو في فعل القربات.
من هنا فإن ما قاله صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة من دعوة المقتدرين لعدم توزيع الطعام والشراب على المفترشين في المشاعر؛ لأن تقديم هذا الطعام والشراب وبهذه الكثرة عن طريق السيارات التي تجوب المشاعر أو تقف بجوار الجمرات توزع كل أنواع الأكل والفواكه هو أحد أسباب افتراش الحجاج تحت الكباري وفي الطرقات وبين الخيام، وما يسببه ذلك من ازدحام وتراكم للأوساخ والقاذورات بما فيها قضاء الحاجة في صورة تشوه الجو العام للحج وتقضي على الجهود الجبارة للمملكة في خدمة حجاج بيت الله الحرام، في ظاهرة غير محمودة نلاحظها في شهر رمضان والحج يتبارى البعض في تقديم وجبات طعام كاملة وبكميات كبيرة ترمى في كل مكان وتداس بالأرجل وتختلط بالقاذورات، وكأن فعل الخير لا يتأتى إلا في المواسم والصدقة لا تكون إلا في الحرم والمشاعر.
إن هذا مما يساعد ويشجع على الافتراش واستغلال الظروف. فدعوة الفيصل أتت في وقتها المناسب، وليت هؤلاء المحسنين يسمعون ويعلمون أن في الأطراف والقرى الكثير في حاجة إلى هذه الصدقات. إن الاستطاعة تعدت في زمننا الحاضر مفهوم الراحلة والزاد، فضيق جغرافية المكان بما فيها المشاعر رغم الجهود المبذولة للتوسعة، وتكدس الحجاج، وزيادة أعداد المسلمين في أنحاء المعمورة، وصعوبة الحجوزات وإجراءات الحج، كل هذا يدخل ضمن الاستطاعة في الوقت الحاضر، فالحج مثلا ليس بواجب على من يتسول ويسأل الناس، بل يجب زجره ومنعه من هذه العادة القبيحة لأن سؤال الناس في الأصل لا يجوز في الشريعة الإسلامية ولا يجوز إلا للضرورة فكيف يمكن جعل المعتاد على التسول مالكا للزاد وبالتالي مستطيعا للحج وبالتالي يجب عليه الحج؟، إن الشرع أوجب الحج بشرط الاستطاعة ولا تأتي الاستطاعة بسؤال الناس الممنوع شرعا إلا للضرورة وليس من معاني الضرورة الذهاب إلى الحج عن طريق سؤال الناس واسترحامهم، كما تقوم وزارة الصحة بتحجيج المرضى والميئوس منهم وتكليفهم ما لا يطيقون إذا علمنا أن الحج لمن استطاع إليه سبيلا.
nyamanie@hotmail.com
فاكس: 6975040

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 148 مسافة ثم الرسالة