-A +A
علي الدميني
لا أخال شخصاً واحداً في عالمنا العربي يقف خارج غبطة فرح خالص بالنكاية بالعدو الإسرائيلي (جيشاً وكياناً) الذي أتاح له الغرب بدرجات متفاوتة، تكرار إلحاق الهزائم بحكوماتنا وشعوبنا وجيوشنا العربية، واستنزاف مقدرات أمتنا ومكامن إبداع عقولنا، واستنزاف عواطفنا وأزمنتنا الثقافية والإبداعية، لكي تتحول إلى مستودع للرغبة في الانتقام، ومساحة لا تشتغل إلا بالتفكير الوجداني في ما أصابها من مهانة الهزائم وظلم الأقوياء لها، بدلاً من التفكير في البناء واللحاق بركب الحضارة، طيلة أكثر من نصف قرن. ولقد بلغ اليوم من مكر الحقيقة، أن ترتفع درجات التعاطف مع المقاومة اللبنانية وتنتشر حمى الغضب والأحقاد في قلوب الذين -ضمن معادلات موازين القوة- أقروا بحق إسرائيل في الوجود. ومن مكرها أيضاً، أن يلحق الشارع الشعبي اللبناني الأذى بإسرائيل وحلفائها، بينما عجزت الجيوش العربية منذ عام 48م وحتى اليوم عن إلحاق الأذى بذلك (الجيش/ الكيان) الذي كان لا يقهر قبل شهر.. فقط.
قاتلت المقاومة اللبنانية بكفاءة استثنائية، وأدارت معركتها بفاعلية مذهلة، واستطاع الشعب اللبناني وقياداته السياسية المحنكة أن تتجاوز الخلافات العميقة، وأن تضمن الحد الأدنى من التماسك إزاء عدو لا يفرق بين فصيل وآخر، ولا بيت دون سواه، ولا جسد دون غيره، وأن تحافظ على تماسك الجبهة الداخلية، التي راهن العدو على توهينها وإشعال الحرب أو نيران الاختلاف بين أطرافها، من أجل أن يتم له استكمال منجزات انتصاره.

إن كل ما يمكن أن يعتبر إنجازا تاريخياً للشعب اللبناني في هذه الحرب، ما كان له أن يتحقق إلا على خلفية ذلك التوافق الفريد على ضرورة التضامن في وجه العدو المشترك، وأن تلك الحنكة السياسية ما كانت لتختمر إلا لشعب عاش في مناخ ديمقراطي، ولشعب أتقن على مدى عقود لعبة السياسة، ومفاصلات المواقف الحاسمة، والانحياز إلى الموقف الصائب في مواجهة الأزمات.
وتحرزاً من التسرع في إسباغ نعوت الهزيمة أو الانتصار على مخرجات حرب الواحد والثلاثين يوماً، التي خاض الشعب اللبناني خلالها (مقاومة وشعباً ومكونات سياسية) معركة الكرامة، والصمود، والقدرة على النيل من طمأنينة المستوطنين وإيذائهم بنفس الدرجة التي عشاها واحتملها اللبنانيون، إلا أنه يمكن القول بأن النتائج السياسية على الأرض، التي ستكون محصلة لقدرة اللبنانيين والحكومات العربية على التعاطي الخلاق مع مقتضياتها، هي التي ستحدد ألوان شعار النصر أو الهزيمة فيما بعد.
ولكي لا نستكين إلى فرح المشاعر أو جروحها وحسب، لا بد من البحث عما يمكن أن يسهم في تثمير الانجازات الإيجابية لهذه الحرب، لا بهدف الاستحواذ على شعار النصر، أو بغرض الانجراف العاطفي للخروج من وطأة تاريخ الهزيمة، وإنما من أجل أن تكون عتبات صلبة لصياغة مرحلة جديدة في تاريخنا.
واجتهاداً في ما تبيحه اللحظة من قراءات، أطرح بعض الأفكار التي أرى مناسبتها لهذه اللحظة المغايرة لكل ما عداها من لحظات ما بعد الحرب التي عشناها طويلاً:
أولاً: لبنانياً
تقع على السياسيين والمثقفين المجربين في لبنان البحث عن معادلة ذهبية تجمع بين حق الدولة في احتكار القوة بموجب القانون وبسط نفوذها على كامل الأراضي اللبنانية من جهة، وبين الإفادة المهمة مما تختزنه تجربة ونضال «حزب الله» من جهة أخرى، وأتمنى أن ينجح الفرقاء المختلفون في اجتراح أساليب المفاصلات السياسية والتنازلات المشتركة، التي تضمن الإفادة من تلك القوة، فيما تكون قادرة على بسط سيادة الدولة. وفي هذا الصدد يمكن التفكير في إدماج قوات «حزب الله» في الجيش اللبناني، مع احتفاظ الحزب بحقه في طرح برامجه وتحالفاته الوطنية والإقليمية، عبر وجوده كحزب سياسي من دون ميليشيات مسلحة. ولعل ذلك قد يستدعي رفع حصته في نسبة محاصصة مجلس النواب والمواقع القيادية في الدولة.
ثانياً : عربياً
أ - يرى الكثيرون، وأتفق معهم، أن هذه الحرب قد ساهمت لأول مرة في التقليل من سطوة الكثير من الأساطير المتعلقة بقوة إسرائيل التي لا يمكن أن تقهر (جيشاً وكياناً)، وأن هذا التطور الإيجابي بالنسبة للكفة العربية يمنحها ورقة تجربة جديدة، وعتها إسرائيل حتى وإن كابرت، والولايات المتحدة حتى وإن تعامت.
وكل ذلك يشجع الحكومات العربية على استعادة الحد الأدنى من التضامن والتنسيق العربي، والعمل الجاد على استخدام مقدراتهم الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية والإعلامية، من أجل دعم مطالبهم للدول الكبرى في أن تبصر الحقائق كما هي على الأرض، لا كما تصورها لها إسرائيل أو اليمين المتطرف في الإدارة الأمريكية. وأن مجمل التجربة المستخلصة من هذه الحرب وما قبلها، يشير إلى أن جذر كل هذه الأزمات والحروب مرتبط بإيجاد حل عادل وشامل ودائم لمشكلات الصراع العربي مع الكيان الصهيوني، فلسطينياً وسورياً ولبنانياً.
ولعل الظرف أكثر مناسبة لعقد القمة العربية التي دعت إليها اليمن، لاتخاذ قرار مهم بمساندة الشعبين الفلسطيني واللبناني، والعمل على إعادة كامل ملف قضية الصراع في الشرق الأوسط إلى الأمم المتحدة، ومطالبة مجلس الأمن بتنفيذ آلية البند السابع لتطبيق كافة قراراته المتعلقة بهذه القضية، دون أن يحصرها فقط في قرار 1559 وما بعده، الخاص بحزب الله
ب- تدعيم مبادرة المملكة العربية السعودية بالتبرع بنصف مليار دولار كأساس لصندوق دولي لإعادة إعمار لبنان، وتعويض المتضررين من شعبه عما لحقهم من خسائر في الأرواح والممتلكات، ومطالبة إسرائيل بتعويض الحكومة والشعب اللبناني عما لحق بهم.
ج – إن تفكير الحكومات العربية في هذه الاجتهادات التي يطرحها الكثيرون، والإسراع بعقد مؤتمر عاجل للقمة العربية، من شأنه أن يساعد على حلحلة الأمور في لبنان، وتسهيل إمكانية انخراط حزب الله في العمل السياسي البحت، وتجنيب لبنان مخاطر ويلات حروب داخلية ممكنة أخرى.
ثالثاً : دولياً
بجانب الدور الكبير الذي تستطيع الدول العربية القيام به دبلوماسيا واقتصاديا لحث الدول على مساندة الحق العربي، فإنه يمكن لكل الأجهزة الحكومية والمنظمات المدنية، والكوادر العربية المثقفة في كل مكان، الإفادة القصوى من تأثير ثقافة الصورة، التي سجلتها عدسات وسائل الإعلام، لإيضاح جرائم حرب الأراضي المحروقة التي طبقتها إسرائيل ضد الشعب اللبناني، وأن هذا الجهد يستطيع التأثير على الحكومات و الرأي العام العالمي، من أجل الضغط على الأمم المتحدة لإدانة كل ما ارتكبته إسرائيل من مجازر، ومطالبة مجلس الأمن بتطبيق كافة قراراته بشأن قضايا الصراع العربي الإسرائيلي في فلسطين وسوريا ولبنان.
وفي لحظة كهذه، و بعكس كل ما جرى ابتذاله حين الإشارة إلى مصطلح «اللحظة التاريخية»، فإنني أعتقد أنها لحظة تاريخية مؤاتية فعلاً، لكي نحتفل مع شعب لبنان العظيم (مقاومة وحكومة وشعباً) بما أبدوه من قدرات مذهلة على الصمود والاحتمال والمقاومة.
ولكنها لحظة وميض خاطف، قد تحمل بشارة الخصب والولادة إن أحسنا (حكومات وشعوبا) استثمارها فعلياً لا عاطفياً، مثلما قد تحمل إمكانات الانزلاق إلى حروب أهلية، ومغامرات داخلية متشابكة جراء الإحباط والغضب الشعبي المتراكم طوال عقود كارثية ماضية.