كالبقع السوداء على الثوب الأبيض بدأت جرائم الاغتصاب تظهر على السطح متخذة أشكالا عدة بدءا من اغتصاب القصر وانتهاء باغتصاب الفتيات، وحتى النساء الكبيرات. ولئن كانت بعض قصص الاغتصاب قد تصدرت وسائل الإعلام بكافة أشكالها وأنواعها، فالمسكوت عنه من هذه الجرائم أكبر وأكثر ــ وفق مايؤكده بعض المختصين ومنهم أستاذ علم الاجتماع الدكتور عبدالله الشعلان الذي بين أن «خوف الأسر على سمعتها يدفعها لعدم تقديم شكوى لعقاب الجاني، بل يحملون الضحية المسؤولية». فطبيعة المجتمع تفرض على الأسر مداراة ما يحدث لأفرادها من اغتصاب أو اعتداء جنسي أو نحوه مما يجعل المشكلة غامضة وطريقة التعاطي معها صعبة في ظل غياب الدراسات والأبحاث والأرقام والإحصائيات من قبل الجهات الأمنية والبحثية والاجتماعية المختصة، التي تتحدث عن المشكلة وتشخصها بشكل دقيق بعيدا عن الارتجالية والتنظير البعيد عن الواقع.
وقد فتحت قضية وحش جدة الذي أقدم على اغتصاب 13 فتاة قاصرة، وقبلها مغتصب سيدة الأعمال في المدينة المنورة النافذة على مثل هذه الجرائم المسكوت عنها بفعل قانون العيب المجتمعي؛ لتكون محور نقاش إعلامي لم ينج هو أيضا من النقد بتهمة أن الإعلام يضخم هذه الجرائم ويحولها لظاهرة في وقت أنها مشاكل بسيطة وصغيرة، ولكن لو نظرنا للأثر النفسي والاجتماعي على أسر المتضررين لوجدناه كبيرا وبحاجة ليكون محور نقاش جاد بحثا عن الحد من تفشي هذه الجرائم، ومن قبل ذلك معرفة أسباب حدوثها في مجتمع مسلم محافظ.
ولعل أهم الحلول لمواجهة هذه القضايا هي إيقاع العقوبات القضائية الرادعة بحق المرتكبين وبشكل سريع وعاجل بحيث تحقق شرع الله وتشفي غليل الضحايا وأسرهم، إلا أن هناك تأخرا واضحا في التعاطي مع هذه المسائل بدلا من الإسراع في إنهاء التحقيق وتنفيذ الحكم وفق مايراه القضاة المخولون بدراسة القضية وإصدار الحكم المناسب فيها، وهل نحن بحاجة فعلية لوجود قانون خاص يتعاطى مع قضايا الاغتصاب.
ويظهر هنا تساؤل مهم هل في حالة ثبت إصابة المغتصب بمرض نفسي يعفى من إيقاع العقوبة به رغم فداحة الجرم الذي قام به.
«عكـاظ» فتحت ملف جرائم الاغتصاب في المجتمع متناولة في الجزء الأول منه الرؤى الشرعية والقضائية والقانونية والنفسية والاجتماعية، فيما سيكون الجزء الثاني مختصا بأخذ ردة فعل الضحايا والجهات الرسمية التي لها علاقة مباشرة بالتعاطي مع هذه الجرائم ووضع الحلول العاجلة لها في سياق التحقيق التالي فإلى تفاصيل الجزء الأول:
حكم الاغتصاب
بداية، يعرف الباحث الشرعي القاضي تركي الرشودي حكم الاغتصاب بأنه الاعتداء على الأعراض قهرا، مشيرا إلى أنه من أعظم الجرائم وأقبحها، وبين الحكم الشرعي فيها بأنه فعل محرم في كافة الشرائع ومجرم في سائر القوانين، وقد اتفقت الفطر السليمة والعقول الصحيحة على قبحه والنفور منه، موضحا أن المغتصب مجرم بأكثر من وجه فهو مجرم من جهة كونه مشتملا على فاحشة الزنا أو اللواط وهما من أكبر الكبائر، وقد أجمع أهل الملل على تحريمهما، فلم يحلا في ملة قط، ومجرم من جهة كون الزنا أو اللواط وقع على وجه القهر والغلبة والإكراه، مشددا على أن الإكراه بغير حق ليس محرما فحسب، بل هو إحدى الكبائر، لأنه من الظلم، لافتا إلى أن الشارع نهى عن جميع أنواع الإفساد، بما في ذلك الاغتصاب وانتهاك الأعراض.
ويتابع الرشودي حديثه، مبينا أن المغتصب مجرم أيضا من جهة الأذى النفسي والجسدي الذي يلحق المجني عليه، حيث إن الاغتصاب غالبا ما يدمر نفسية المجني عليه، ويؤثر على تصرفاته وسلوكه، مؤكدا على من أسوأ صور الاغتصاب الاستغلال الجنسي لمن لا خيار له ولا يمكن أن يعبر عن رضاه كالأطفال والمعتوهين.
العقوبة المناسبة
وحول عقوبة المغتصب، يوضح الرشودي أنه إذا وقع الاغتصاب على جهة المكابرة والمجاهرة فيجب على الفاعل حينئذ حد الحرابة، لكونه من المفسدين في الأرض فينطبق عليه الحد المذكور في قوله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهِم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم)، مشيرا إلى أن الحاكم يختار من هذه العقوبات الأربع الواردة في الآية الكريمة ما يراه مناسبا، ومحققا للمصلحة وهي شيوع الأمن، وردع المفسدين.
واستدل على ذلك بقرار هيئة كبار العلماء في المملكة رقم 85 في 11/11/1401هـ: (إن جرائم الخطف والسطو لانتهاك حرمات المسلمين على سبيل المكابرة والمجاهرة من ضروب المحاربة والسعي في الأرض فسادا المستحقة للعقاب الذي ذكره الله سبحانه في آية المائدة سواء وقع ذلك على النفس أو المال أو العرض)
وبين الرشودي أن حد الحرابة يطبق في حال ثبوت الجريمة بإقرار الجاني أو اكتمال البينة، واستدرك «لكن عند إنكار المتهم أو عند عدم اكتمال البينة أو عند عدم توفر شروط إقامة حد الحرابة، فإن حد الحرابة لا يطبق»، وعاد ليؤكد أنه متى ما لحظ الحاكم الشرعي وجود قرائن توجه الشبة ضد الجاني ولا تصل لحد الإثبات، فإنه يلجأ إلى التعزير فيعاقب الجاني بما يحقق المصلحة.
المرض والعقوبة
وحول أثر المرض النفسي أو العقلي في العقوبة قال الرشودي «الأصل أن الإنسان مسؤول ومؤاخذ بما يصدر منه من جرائم، وخلوه من الأمراض النفسية، مشيرا إلى أنه عند ادعاء الجاني أو وليه أنه مريض نفسيا أو عقليا فإنه لا يسلم له بذلك بمجرد دعواه، بل لابد من التحقق من كون الجاني مصاب فعلا بمرض نفسي»، مبينا أنه يمكن التحقق من ذلك بأكثر من طريق ومنها الاستعانة بالأطباء المختصين بالأمراض النفسية والعقلية، مستدركا «لكن إذا كان الجاني مريضا بأحد الأمراض النفسية أو مصابا بأحد الأمراض العقلية ينظر في تأثير هذا المرض على عقل المريض وإدراكه للأمور»، مشددا على أنه ليس كل مرض نفسي أو عقلي مانع للمسؤولية، مشيرا إلى أن الأمراض النفسية كثيرة ومتنوعة، ومتفاوتة في أثرها على الإرادة والإدراك.
ويوضح الرشودي، أن القضاء الشرعي كما هو الفقه الإسلامي لا يهتم كثيرا بأسماء الأمراض النفسية والعقلية وإنما ينصب اهتمامه على تأثير هذا المرض أو ذاك على عقل المريض وإدراكه للأمور، مؤكدا أنه ليس كل مرض نفسي يعفي من العقوبة، مفيدا أن القاعدة الشرعية «أنه متى ما كان الإنس ان مكلفا أي مدركا مختارا، فهو مسؤول عن جنايته، ومتى زال التكليف انعدمت المسؤولية»، ويوضح الرشودي أنه متى ماتبين أن الجاني غير مكلف شرعا وفي تركه طليقا ضرر على المجتمع فإنه عادة ما يأمر القضاء بإيداعه في مصحة لتتم ملاحظته ورعايته.
وينفي المستشار القانوني المحامي خالد نحاس الحاجة لوجود قوانين خاصة بالاغتصاب، مؤكدا على أنه لامجال للاجتهاد فيما شرعه الله سبحانه وتعالى، مشددا على أن جرائم الاغتصاب من الجرائم التي تنتهك حرمات المسلمين وهي من ضروب المحاربة والسعي في الأرض فسادا المستحقة للعقاب المذكور في القرآن.
أعراض نفسية
وهنا يبين رئيس الدراسات الأكاديمية في كلية الملك فهد الأمنية أستاذ علم النفس الجنائي الدكتور ناصر العريفي، أن المقدمين على الاغتصاب مرضى نفسيا لكن لا يعفيهم ذلك من المسؤولية وبالتالي تنفيذ الحكم الشرعي الرادع لهم، وأضاف «الجرائم المتعلقة بالاغتصاب تتعلق مباشرة بالدوافع والعوامل النفسية ذات التأثير العميق في شخصية المغتصب»، مبينا أنه يرتبط بكثير من الاضطرابات النفسية والسلوكية الأخرى، فهو يرتبط بنزعة السادية أي حب إلحاق الأذى والألم وإيقاع العدوان على الضحية أكثر من مجرد الإشباع الجنسي، معتبرا أن الاغتصاب جريمة عنف وعدوان على المجني عليه سواء طفل أو طفلة أو امرأة.
وبين العريفي، أن الجاني يميل إلى إشباع رغباته بطريقة حيوانية لا تمتثل لقانون شرعي ولا قانون وضعي، ولا لأي من الضوابط الاجتماعية والإنسانية، مضيفا «لهذا نجد أن شخصية المغتصب مرتبطة بانحراف السيكوباثية وهي شخصية متجردة من الضمير والأخلاق الفاضلة، حيث نجده يفقد الشعور بلوم الضمير، ولا يأبه بآلام الغير بل يتلذذ بمعاناتهم وآلامهم ويرتكب فعله ببرود دون وجود لصحوة الضمير وإحساس بالآخرين».
ولفت العريفي إلى انه قد يكون شخصا محروما أو مكبوتا من الناحية الجنسية، وقد يكون مندفعا عاجزا عن التحكم في دوافعه وسلوكه، وقد يكمن وراء الاغتصاب دافع السيطرة والرغبة في إظهار القوة للمرأة. ورأى العريفي أن الرضا والسكوت لا يعتبر حجة إذا قام على خداع المعتدى أو احتياله أو تخويفه للمعتدى عليها، مشيرا إلى أن الاغتصاب عبارة عن ممارسة الفسق بالإكراه، أي الزنا القسري، مؤكدا على أن معظم مرتكبي جرائم الاغتصاب لايدينون بالقيم الأخلاقية، ولا بحقوق الغير، ولا يهتمون باحترام العرف والعادات والتقاليد، ويخرقون الضوابط الاجتماعية، ولا يهتمون إلا بملذاتهم الشخصية.
شخصية المغتصبة
وحول الأثر النفسي على الضحية المغتصبة قال العريفي«إن الأثر الناجم عن جريمة الاغتصاب تمتد على الشخصية المغتصبة سواء كانت امرأة مكتملة أو طفلة بريئة إلى سنوات عدة ينتج عنها اختلال في شخصية الضحية واضطرابات نفسية حادة تؤدي إما إلى القلق المرضي أو إلى نوبات اكتئابية حادة أو إلى مخاوف مرضية تنتاب الضحية بين حين وحين كلما تعرضت لذكرى الحادثة الأليمة»، مبينا أنه يترتب على جرائم الاغتصاب إلحاق الأذى بأسرة الضحية لقلقهم على ابنتهم وقلقهم على النتائج المترتبة على ذلك سواء من الناحية الاجتماعية والتي تتعلق بزواج الضحية أو من الناحية الأخلاقية التي ترتبط بثقافة المجتمع المحافظ وسيطرة العقل الذكوري عليه.
ورفض العريفي الجزم بوجود مراكز خاصة تعتني بالحالات المغتصبة من الضحايا، واستدرك بقوله «إلا أنه ومن خلال علمنا توجد مراكز طبية أو مستشفيات عامة من خلالها يتم علاج الضحية»، لافتا إلى إنشاء هاتف للإبلاغ عن أي اعتداء عدواني أو جنسي على الطفل أو المرأة، لكن العريفي يجد أن هذه الخطوة قاصرة لوجود غموض عند الكثير بمعرفة بعض هذه الأرقام أو القدرة على الاتصال نتيجة الخوف من النتائج التي تلحق بهم جراء الإبلاغ، وأفاد العريفي بوجود مراكز تأهيلية داخل بعض المصحات تهيئ للضحية العلاج لمدة محدودة.
ويشير أستاذ علم النفس الجنائي إلى أن المتابعة الصحية المتعلقة بالحالة النفسية والاجتماعية ندارة بسبب القيود الاجتماعية والثقافية في مجتمعنا.
وخلص العريفي إلى ضرورة توجيه العلاج المكثف للمجرم، عن طريق العقوبة الرادعة لحماية المجتمع من تكرار ارتكاب هذه الجريمة الخطيرة، وكذلك العلاج النفسي والشرعي للمجرم بتكثيف التوعية الشرعية ونصحه وبيان صحة التعامل الجنسي السوي بالطرق المشروعة في الدين، مشددا على أهمية متابعة المجرمين أثناء تواجدهم في السجن وبعد خروجهم وذلك لتعديل اتجاهاتهم واعتقاداتهم المريضة أو الشاذة وأفكارهم السيئة تجاه المرأة والمجتمع.
الخطر الاجتماعي
ويكمل أستاذ علم الاجتماع والجريمة المساعد رئيس قسم العلوم الاجتماعية في كلية الملك فهد الأمنية الدكتور عبدالله الشعلان مابدأ به العريفي من الحديث عن الآثار النفسية ليوضح الآثار الاجتماعية لجرائم الاغتصاب في المجتمع بقوله «الاغتصاب من أخطر وأبشع جرائم العنف وهي توازي جرائم القتل من ناحية الخطورة وتتجاوزها من ناحية الآثار»، مبينا أن الاغتصاب هو قتل بطيء للضحية تستمر آثارها النفسية والصحية والاجتماعية لفترات طويلة وتمتد هذه الآثار لتشمل الأسرة والمجتمع.
وأفاد الشعلان أن وقوع جريمة اغتصاب واحدة تهز المجتمع بكامله، نظرا لأنها تمس النظام الأخلاقي للمجتمع وترفع من نسبة الخوف لدى الأفراد وتهدم أسر وتزيد من الأعباء الاجتماعية (اللقطاء، والإجهاض).
وعدد الشعلان الآثار النفسية على الضحية ومنها عصاب الصدمة، الاكتئاب والرغبة في الانتحار، فقدان الثقة بالنفس وبالرجال، الإحساس بالذنب وبالذل والمهانة، والنفور من الجنس لفترة طويلة. وقد يمتد ذلك ليؤثر على فرصة زواجها إن كانت عذراء وقد تتحمل أعباء أكبر إذا كان هناك حمل من ذلك الاغتصاب.
وأضاف «فيما يتعلق بالآثار على الأسرة فقد ينفر الزوج من زوجته (الضحية) وقد يؤدي ذلك إلى حدوث طلاق مما يفكك الأسرة ويتشتت الأطفال».
وفسر الشعلان جريمة الاغتصاب بثلاثة عناصرأولها فيما يتعلق بالمجرم هناك مجموعة عوامل قد تدفع بالمجرم لارتكاب جريمة الاغتصاب منها: الخصائص الديموغرافية للمجرم (العمر 20 ــ 30، مستوى التعليم منخفض والحالة الاجتماعية أعزب)، والتفكك الأسري ونقص في التنشئة الاجتماعية، ممارسة العنف ضده في الصغر، مشكلات نفسية يعاني منها المجرم، الضغوط الاجتماعية، البطالة، والإحباط لعدم قدرته لتحقيق الأهداف المجتمعية، وتعاطي المخدرات والمسكرات، وتأخر سن الزواج، مشاهدة الأفلام الإباحية.
الوسائل الوقائية
وأضاف أما العنصر الثاني فيما يتعلق بالضحية فقد تشترك الضحية في تحمل مسؤولية وقوع الجريمة ضدها، وذلك بتواجدها في أماكن نائية أو في أوقات متأخرة من الليل بعيدة عن أنظار الناس، مشيرا إلى أن هذه الظروف قد تفرضها طبيعة حياة الضحية ومكانتها الاقتصادية والاجتماعية، فمثلا قد تحتاج الضحية في تنقلاتها إلى وسيلة نقل خاصة غير نظامية.
وأوضح الشعلان أن العنصر الثالث هو عدم توفر الحماية والرقابة فقد لا توفر الأسرة وسائل حماية ورقابة لأفرادها عند خروجهم سواء باصطحابهم أو بتحصينهم وتوعيتهم بعدم تواجدهم بأماكن عامة بمفردهم مما يصبحون أهداف مناسبة وسهلة للمجرمين لخطفهم واغتصابهم.
مشيرا إلى أن جريمة الاغتصاب قائمة على اجتماع العناصر الثلاثة، فإن نقض عنصر ما فإن الجريمة لن تقع، مبينا أنه يمكن التقليل من فرصة ارتكاب جرائم الاغتصاب إذا قمنا بالوسائل الوقائية لذلك، ولذك بعدم ترك الأطفال مثلا يلعبون في الأسواق والحدائق دون رقابة.