-A +A
د. طلال صالح بنان
كان هناك تيار قوي، على المستوى النخبوي العربي وعلى مستوى الشارع السياسي العربي، أبدى امتعاضاً واضحاً من أداء النظام العربي السياسي، خلال فترة أحدث الحروب العربية مع إسرائيل، تلك التي دارت على ساحة ما كان يسمى بالخاصرة الرخوة، على امتداد الجبهة العربية مع إسرائيل ( لبنان )، لما يزيد عن الشهر. ساعد على تطور هذا التيار القوي الناقد لأداء مؤسسات وفعاليات النظام العربي، حالة الترهل المزمن الذي وصلت إليه العملية السلمية، التي أُعلن ـ بالفعل ـ وفاتها عشية الحرب ومن على منبر الجامعة العربية، وبحضور وزراء الخارجية العرب، الذي لم يتحفظ أي منهم على ما قاله أمين عام الجامعة العربية، في هذا الصدد. ساعد أيضاً، ضعف الأداء العربي، في ما يخص إدارة الصراع مع إسرائيل، لما يزيد عن ثلاثة عقود، على مستوى ما أعلنه العرب بخيار السلام الاستراتيجي، الذي قد يكون فُهم خطأ، خاصة لدى فعاليات مهمة في النظامين الإقليمي والدولي، أن العرب قد أسقطوا تماماً، أية خيارات أخرى لإدارة صراعهم مع إسرائيل، بما فيها اللجوء إلى القوة، إذا اقتضى الأمر. وأيضاً، في داخل النظام العربي، غير الرسمي، ساهمت وسائل الإعلام المختلفة في إبراز حالة الاحتقان السياسي «المكبوت» لعقود، في ضمير الجماهير العربية، التي ساهمت أجواء الحرب، في بعثه من تحت الرماد، ليتقد ـ من جديد ـ باضطرام نار الحرب التي اشتعلت على طول الجبهة اللبنانية مع إسرائيل، ولم تسلم أية بقعة في لبنان من امتداد ألسنتها إليها، حتى كادت الحرب تخرج عن نطاق مسرح عملياتها في لبنان وإسرائيل، لتشعل المنطقة، بأسرها.

على أي حال: أجواء الحرب الساخنة، في أي حرب، لابد أن تفرض واقع حرارتها الملتهبة، على مستوى الفكر والحركة، في المجتمعات الإنسانية. عواطف إنسانية تتفاعل في أجواء الحرب لا يمكن تفسير بواعثها، بصورة عقلانية منطقية أو حتى احتواء حركتها العنيفة، في كثير من الأحيان... وقد يكون من الأسلم، إعطاء الفرصة للتنفيس عن هذه المشاعر المكبوتة، التي أظهرتها الحرب على السطح، انتظاراً لتفريغ «فقاعتها»، ربما قبل أن تضع الحرب أوزارها.

أي تعامل منطقي وعقلاني، مع الموقف، خاصة في بداية اشتعال الحرب، لا يمكن تقييم بواعثه، إلا بعد أن تضع الحرب أوزارها.. وربما بعد خبوء نشوة الانتصار فيها، في حالة كسبها.. وبعد الإفاقة من نشوة التحمس لها، في حالة الهزيمة. في كل الأحوال: لا يمكن، تحت أي ظرف من الظروف، عند تقييم نتائج الحرب وتداعياتها، في ما بعد، أن يساوي أي انتصار فيها، هذا إذا كان هناك انتصار حقيقي في أي حرب ، تكلفة اللجوء إلى خيارها.. ويمكن، في المقابل، تقدير حجم الهزيمة، في أي حرب، هذا إذا كانت هناك، بالفعل، هزيمة لطرف فيها، مقارنة بتبصر عوائد الخيارات الأخرى المتاحة، للأطراف المتحاربة، بديلاً عن خيار الحرب الباهظ التكلفة.

ولكن، مع هذه الملاحظات المتكررة لأجواء الحرب، هناك ـ في كل الأوقات ـ أصوات متعقلة، وإن كانت هادئة في كثير من الأحيان، تحذر من مغبة اللجوء إلى الحرب.. والاستسلام لإغراء مغامرتها.. والتذكير بعدم الركون إليها كوسيلة فعالة لتحقيق الأهداف السياسية التي دفعت نحو الأخذ بخيارها.. وأن الحرب، في كل الأحوال، لا يمكن التوقع بنتائجها، مهما بلغت الثقة في توفر الإمكانات اللازمة للنصر فيها... خاصة إذا ما استفزت جذوة الحرب الخامدة، شرارة غير مسؤولة قدحت بها جماعات غير نظامية، لم تأخذ في اعتبارها تكلفة الحرب الباهظة على مجتمعها.

هذا كان بالضبط موقف الدول العربية، وفي مقدمتها المملكة، التي ولحسن حظ النظام العربي، شكلت إجماعاً في داخله، كان عليها في نهاية المطاف دفع تكلفة حرب لم يكن لها قرار في شنها، وإن كان من مسؤوليتها القومية، تفادي أية هزيمة يمكن أن تتسبب بها الحرب.. وتعود بالنظام العربي وفعالياته ومؤسساته، عقودا إلى الوراء. الحرب، من البداية قرار لا يمكن التحمس لخياره بسهولة، وإن كان خيار الحرب لا يمكن استبعاده، ولكن لا يجب أن يتمتع بالأولية، في إدارة أية أزمة. الشيء الملفت هنا الذي يبرز شجاعة حقيقية، هو إبراز الموقف المناوئ للحرب، من قبل أنظمة عربية مهمة، في مواجهة هذا المد الجارف من عواطف «الترحيب» الجياشة بالحرب التي كانت تسود الجماهير العربية، وانجرت إليها العديد من النخب المثقفة، في المجتمعات العربية.

دول عربية مهمة في النظام العربي، في مقدمتها المملكة، لم تتردد في التعبير عن موقفها الجريء من حربٍ فرضت على النظام العربي، وكذا فرضت على عضو في الجامعة العربية، من قبل منظمات غير رسمية، مازال فكرها الحركي العنيف يسيطر على سلوكها، حيث لم يفلح انخراطها في العمل السياسي الرسمي، في مجتمعها، في تهذيبه. غير ما يقيمه البعض من موقف هذه الدول المناوئ للحرب، منذ بداية أيامها الأولى، من أن موقف هذه الدول العربية الفاعلة في النظام العربي - على حد زعمه- يشكل غطاءا سياسياً للعدوان الإسرائيلي، لاعتبارات خارج التزاماتها العربية القومية. وقد ثبت الآن أنه ليس صحيحاً، أن موقف هذه الدول العربية المهمة، في النظام العربي من الحرب، كانت ينتظر هزيمة عربية جديدة، في المواجهة مع إسرائيل، تتكفل بالتخلص من بقايا ما يسمى قوى المقاومة في العالم العربي للمشروع الصهيوني، من أجل أن تمهد الطريق لوضع حدٍ نهائي للصراع العربي الإسرائيلي، بما يتوافق مع أجواء التغيرات التي حدثت على النظام الدولي، عقب انهيار نظام الحرب الباردة. ولم يكن صحيحاً، على إطلاقه، أن الكلام عن المغامرة غير المحسوبة لمن قدح زناد الحرب، معناها أن هذه الدول ضد خيار الحرب، من حيث المبدأ، إذا ما توفرت شروط خوضها، بما تتلاقى مع إمكانات النصر فيها، باعتبار أن الحرب آخر الدواء.

هذا الموقف المناوئ وغير المرحب باشتعال الحرب، الذي صدر من بعض الدول العربية المهمة في النظام العربي، كان موقفاً مسؤولاً يعكس وعياً ناضجاً لمعنى اللجوء إلى قرار الحرب... فما بالك إذا كانت الحرب مفاجأة للجميع، حتى للجهة المسؤولة عن الدفاع عن الوطن وكانت الحرب تهدد كيان الدولة فيها ( لبنان ). ثم إنه كان واضحاً، البعد الإقليمي والدولي للحرب، الذي أخرج من معادلته النظام العربي، الطرف الذي قدح زناد الحرب. حسن نصر الله، قال، منذ بداية الحرب إنه كان لا يعول على الموقف العربي..!؟ لنتساءل، بدورنا، على من كان يعول نصر الله.. وأي أجندة إقليمية ودولية كان يخدمها حزب الله، باستفزازه للحرب.

في النهاية: على من تقع تكلفة دفع فاتورة الحرب، التي بالقطع، لن يحتمل حجمها لبنان، ولن يتقدم أي طرف دولي أو إقليمي لمساعدة لبنان بدفع فاتورة تكلفة الحرب، وإن كانت الحرب أفتُعلت لتحقيق أهدافه السياسية على حساب استقلال لبنان وعضويته في النظام العربي، دون مساومة سياسية على استقلال لبنان، ومكانته الاستراتيجية في النظام العربي. حسن نصر الله يعرف أن من يدفع فاتورة إعادة إعمار لبنان هم العرب، ليساهموا بدورهم في تحقيق أهداف خصومهم وأعدائهم الإقليميين والدوليين، على حساب أمنهم القومي ومصالحهم العليا...!؟

لا يمكن إغفال صمود الشعب اللبناني والبلاء الحسن الذي أبداه في إدارة الحرب على خط المواجهة، ولكن في حقيقة الأمر، لم يكن للبنان ولا للحزب أن يصمدا، هذا الصمود الكبير في مواجهة أشرس هجمة إسرائيلية غير متكافئة على لبنان، لولا أن هذه الدول العربية الفاعلة في النظام العربي لم تتعامل سياسياً وإعلامياً ودبلوماسياً واقتصادياً، مع تطورات الحرب على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية. هذه الدول العربية الفاعلة في النظام العربي، التي لاقت عنتاً شديداً، من قبل الجبهة الداخلية في النظام العربي، بل وحتى من داخل مجتمعاتها.. ومن قِبَل الدول العربية المعروفة تاريخياً بمزايداتها على قضية الصراع العربي الإسرائيلي... هذه الدول العربية، لم تقعد في الصفوف الأمامية تشاهد سير المعركة، عن بعد.. وتنتظر ما كان يتردد، الهزيمة العربية السادسة في مواجهة إسرائيل.

هذه الدول العربية، وفي مقدمتها المملكة.. وبالذات المملكة، تحركت دبلوماسياً وسياسياً، على كافة جبهات الحرب السياسية، إقليمياً ودولياً. وفود رفيعة المستوى أقامت خطاً ساخناً مع الدول الفاعلة في النظام الدولي، خاصة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن من أجل إيقاف الحرب... بل إن المملكة، ذهبت إلى أبعد من تقديم العون السياسي والاقتصادي للبنان، باحتمال دخولها معمعة الحرب، لو لم يتحمل المجتمع الدولي، مسؤولياته في إيقاف الحرب.. ودحر المعتدين... وتكلل ذلك الجهد العربي الذي قادته المملكة في الأمم المتحدة بصدور قرار مجلس الأمن رقم: 1701، وما تبعه من وقف إطلاق النار... وكان أن صمدت الجبهة اللبنانية عسكرياً، وانتصر لبنان سياسياً.. ولحقت بإسرائيل هزيمة سياسية وعسكرية مدوية.

هذا إنجاز كبير حققه النظام العربي، بقيادة الدول الفاعلة فيه مثل المملكة، لتجاوز مغامرة الحرب على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية، يتنافى بشدة، مع كل التخرصات، التي رافقت ما أعلنته المملكة بكل شجاعة عن مغامرة الحرب، منذ الأيام الأولى للحرب. لو كانت هذه التخرصات، لها جانب ولو ضئيل من الصحة، لما تحركت المملكة، منذ أيام الحرب الأولى، لتقليل ضرر المغامرة، إلى أدنى حدٍ ممكن تحمله.. مع إرادة قوية لتفويت الفرصة، على كلٍ من المغامر والعدو، معاً، من تحقيق ما كان متصوراً لسير الحرب، من البداية.

دعونا نتصور لو أن الحرب كانت قراراً عربياً، أو على الأقل لبنانياً، ماذا تكون عليه الحال. بالقطع ستكون نتيجة الحرب، أكثر حسماً في إظهار النصر للبنان والعرب.. وإلحاق هزيمة منكرة بإسرائيل ومن وراءها. التاريخ يقول لنا إن قرار الحرب مع إسرائيل وغيرها من الأعداء الدوليين والخصوم الإقليميين، عندما يكون عربياً، فإن النصر يكون حليف العرب. لنأخذ حرب السويس، عام 1956.. وحرب أكتوبر عام 1973... وكذا حرب الخليج الأولى، على جبهة البوابة الشرقية للعالم العربي... كيف أن التضامن العربي، في كل هذه الحروب والمواقف قاد إلى نتائج إيجابية، كانت لها عوائد سياسية ومعنوية واقتصادية، على الأمة، بأسرها. وبالعكس، عندما يكون قرار الحرب من طرف عربي بعينه، تكون النتيجة الهزيمة العسكرية، وما يتبعها من تداعيات سياسية واستراتيجية واقتصادية سلبية، قس على ذلك بقية الحروب العربية مع إسرائيل.. وفي جبهات أخرى، مثل حربي الخليج الثانية والثالثة.

في النهاية، حتى من بإمكانه أن يجير نتيجة الحرب لصالحه، بالرغم من تكلفتها الباهظة عليه وعلى مجتمعه، اعترف مؤخراً أنه أساء تقدير الموقف.. وفاجأته رد الفعل الإسرائيلية.. وفاتته قراءة معطيات النظام الإقليمي والدولي... بل وحتى ردة الفعل الرسمية للنظام العربي. حسن نصر الله، في أحدث لقاء تلفزيوني له، قال ذلك وأكثر... بل إنه شعر بمرارة نتيجة الحرب، على زعامته وحزبه... وبأن المرحلة القادمة، لن تكون بأفضل من مرحلة ما قبل الحرب، بالنسبة لزعامته ومكانة حزبه.

التاريخ على أي حال، سيقول كلمته... وسوف يكون أكثر إنصافاً منا، في تقدير الموقف المسؤول للدول العربية، التي واجهت معركتين، في آن، وليست معركة واحدة. معركة داخلية، في مجتمعاتها وعلى مستوى النظام العربي، لموقفها الجريء والصريح والصادق، من الحرب، الذي تجاوز فرصة إرضاء الجماهير، لجعل الجميع يتبصر خطورة التورط في حرب مفاجئة، يُلعب فيها بورقة عنصر المغامرة، ولم يُستشر فيها أحد.. ومعركة أخرى محتدمة، على جبهة القتال السياسية والاقتصادية والإعلامية، من أجل عدم سقوط جبهة لبنان.. ودعم صمود الشعب اللبناني.. والحيلولة دون العدو وانتصار رخيص.. وإرباك أجندة خصوم العرب الإقليميين من تحقيق أية مكاسب، يدفع فاتورتها العرب من أمنهم وثروتهم ومكانتهم الإقليمية والدولية وقرارهم السياسي.