-A +A
علي الدميني
يبدو ان جدة المدينة والتاريخ بما تزخر به من مخزون الأريحية ومكونات التسامح والتعدد والقبول بالاختلاف، كانت مبتهجة تلك الليلة، بتكريم وزير الثقافة و الإعلام الأستاذ إياد مدني وأركان وزارته، للأستاذ الناقد الكبير محمد الشنطي، فانتدبت جدة فرقتها الشعبية لتجسد بالصوت والعود والإيقاع الحجازي المتفرد، تعبيرها عن رهافة مشاعر الإنسان وولعه بالحياة والفن والأدب، وعن امتنان ضميرها الشعبي، وتقديره للقلم النبيل والصادق الذي انشغل بمهمة الكتابة النقدية التأسيسية في ساحتنا الأدبية المحلية، على مدى أكثر من ثلاثين عاماً.
وحيث افتتح معالي الوزير تلك الأمسية بكلمة معبرة ومختصرة ورامزة أيضاً إلى تدشين مرحلة مختلفة في التعبير عن تقدير وزارة الثقافة لأصحاب العطاء، فإن حشرجات قلب الدكتور الشنطي قد أكملت حميمية الليلة بكلمة موجزة ومؤثرة. وما بين الكلمتين ترسخت دوال الإيجاز لتعلن أن صاحبيها، الوزير والناقد، لا يعشقان الكلام الشفوي ولا يستسلمان لغواياته، بقدر عشقهما للفعل الثقافي، على صعيد الإعلام، وعلى مستوى الكتابة النقدية.

أما الحاضرون فقد تحرروا من هذا الإطار، وفتحوا أبواب مشاعرهم لكلمات سيّالة فاضت عن أطراف المائدة، غير أن من أهمها ما المح إليه الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين، حين استذكر معتذراً ما شاب احتفائية النادي الأدبي بجدة بالدكتور الشنطي قبل ثلاثة أعوام من طيش نقدي، رافق تلك الأمسية، إلا أن ذلك الطيش لم يخرج الدكتور الشنطي عن سمت المثقف وكبرياء الناقد الحصيف، فرسم لنا صورته الحوارية المتسامحة إزاء أقسى الصفات البلاغية المتشددة في نبرتها العالية وفي نظرتها الأحادية.
ذلك هو مثال الباحث الدؤوب، والكاتب المتأمل والصبور، وتلك هي صورة الشنطي، في ضمير مرحلة طويلة من مراحل تبلور الخطاب النقدي والإبداعي في بلادنا، حيث كان له ولأقرانه فضل نحت مفرداته، وتحديد ملامح انشغالاته، وفي فتح مغاليق النص الجديد وإضاءة طبقاته أمام القارئ والمهتم على السواء. ولعلي لا أبالغ حين اقول، بأنه لولا تلك الجهود المبكرة للشنطي وسواه من كوكبة الأساتذة النقاد العرب في فضائنا الثقافي، التي امتدت من منتصف السبعينات حتى اليوم، لما نستمتع بما نشهده اليوم من تطور وتميز في خطابنا الإبداعي والنقدي على حد سواء.
وقد عبر المشاركون عن تقديرهم لما يمتاز به الدكتور الشنطي من صفات الجدية والالتزام، وجلد المتابعة، ودقة التعبير، و عن ما يتمتع به من خصال عفة القلم واللسان، والترفع عن الانزلاق إلى ساحات المهاترات، أو سقط الكلام. وكان من أبرز ما سمعته في هذا المنحى، ما أشار إليه الناقد الدكتور سعيد السريحي، من سمات التواضع، ونكران الذات، حيث قال: لقد عبرت للدكتور الشنطي في إحتفائية النادي الأدبي بجدة، بأنه كان وفياً لكل الأسماء التي شاركت في صياغة خطابنا النقدي على مدى ثلاثة عقود، ولكنه ظلم شخصاً واحداً فقط، وذاك هو الشنطي ذاته، حين لم يتطرق في مجلديه عن الحركة النقدية في المملكة إلى إسهاماته في تطوير الخطاب الإبداعي و النقدي في المملكة!
نعم، تلك هي سجايا التعفف التي أختص بأشرفها الدكتور الشنطي، ولعله قد ترك لضميرنا الثقافي والإنساني والوطني مآلات تقديرها، ولعل اللحظة قد أزفت لأن يقول كلمته، مناشداً المهتمين وأصحاب القرار في كل موقع، بأن يفوا لهذا الرجل المثقف بعض ما له من دين في أعناقنا، و ليس بأقل من منحه درجة المواطنة الكاملة، أسوة ببعض من حصلوا عليها من المقيمين الشرفاء في بلادنا.
ولقد شد انتباهي ما ختم به الدكتور بكر باقادر ذلك المساء، حين نبه الدكتور الشنطي، إلى أنه سيذهب إلى أرض أدبية جديدة في الأردن، وأن تلك الساحة الأدبية قد حظيت من نقادها باحتفاء شامل لن يجد الطارئ عليه موقعاً لكتابة حرف أو كتابة. وقد مد الدكتور باقادر رأس ملاحظته إلى النهاية، حين طالب الدكتور الشنطي بضرورة الاستمرار في تركيز جل انشغالاته النقدية على الساحة السعودية، لأن مكانه فيها كان على الدوام شاغراً!!
وبعد انتهاء أمسية الاحتفاء وددت أن أهمس للدكتور باقادر بالقول: يا دكتور.. وحّد الله... نحيل الرجل على المعاش ولا نفتح له باباً لأن يكون واحداً منا، ويضطر لمغادرة ديارنا بحثاً عن مكان لائق، ثم تطلب منه أن يبقى وفياً لساحتنا الأدبية إلى الأبد؟؟