-A +A
د. طلال صالح بنان
هناك ما يشبه الارتجالية والإرتباك، في معالجة المجتمع الدولي،لآثار الدمار «الشامل» الذي أصاب لبنان، من جراء الحرب العدوانية التي شنتها عليه إسرائيل. العالم، من الناحية السياسية، تعامل مع الأزمة، منذ بدايتها، بلامبالاة مطبقة.. ووقف مكتوف «اليدين» وهو يشاهد حربا عدوانية غير متكافئة، يشنها عضو كان للمجتمع الدولي دورٌ في زرعه بالمنطقة، في مواجهة عضو أصيل مؤسس للأمم المتحدة. .!؟
كانت إسرائيل في عملية تدمير ممنهجة للبنان الدولة والمجتمع والبنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية، تمارس حقدها العنصري الأرعن في استعراض قميء للقوة المجردة، والعالم لم يتحرك.. الفعاليات المهمة في النظام الدولي، تحاول جاهدة حماية العدوان، رغم أن هناك التزاماً سياسياً وقانونياً وأخلاقياً وتاريخياً منها، بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين.

مثل هذه المأساة السياسية التي تجلت في سلوك العالم، أثناء الحرب، تتفاعل الآن، بصورة أكثر سواداً وقتامة، عندما يأتي الحديث عن «مساعدة» لبنان، على تجاوز آثار الدمار الشامل الذي أحدثته تلك الحرب الشعواء التي شنتها إسرائيل عليه. لبنان، على أي حال لا يسأل أحداً إلحافاً.. وهو في كل الأحوال، قادرٌ بمساعدة ومساندة أشقائه العرب، على إعادة بنائه، بما كان عليه الوضع قبل العدوان، وربما أفضل... وفي فترة وجيزة، سوف تدهش العالم.. ويجدد بها معركة صموده في وجه العدوان ودحره، في ملحمة مدنية حضارية فذة. لبنان، على أي حال تجاوز في الماضي محناً، لا تقل قسوة وفظاظة ووحشية ولا إنسانية، عن تجربة الحرب الأخيرة، مع إسرائيل. لبنان، الذي انتصر في هذه الحرب بإمكاناته الدفاعية المحدودة في مواجهة آلة الردع الإسرائيلية الجهنمية، لقادر، بأن يسطر انتصاراً جديداً، في ملحمة إعادة البناء ، بمساعدة ومساندة أشقائه العرب، الذين لم يتخلوا عن مساندته الاقتصادية وقت الحرب.. وتفادوا، بذلك سقوط الجبهة اللبنانية، من الداخل.
منذ الأيام الأولى للحرب قدمت المملكة دعماً عاجلاً للبنان، بلغ 1.5 مليار دولار، والكويت بادرت بتقديم قرض بـ 500 مليون دولار في شكل قرض طويل الأجل... كان لتلك المبادرة لدعم اقتصاد لبنان، أثرٌ إيجابي على تمكين لبنان من تحقيق الصمود أمام العدوان.
الدول التي ساندت العدو سياسياً... بل وعسكرياً، أيضاً، أثناء عدوانه وسكتت عن جرائمه التي اقترفها ضد الشعب اللبناني التي تتضاءل أمام مستوى وحشيتها وبربريتها ما اقترفه النازيون الفاشيون في الحرب الثانية، هي نفسها الدول التي تحاول من خلال مؤتمر أستوكهولم لمساعدة لبنان ضمن ما يطلق عليه مجموعة الدول المانحة، أن تواري «سوأتها» السياسية، بغطاء شفاف من المساعدات الاقتصادية، التي لا تستر دوافعها السياسية، من وراء إدارة الأزمة، بأي حال من الأحوال.
حسب التقديرات، التي أمام المجتمعين في مؤتمر أستوكهولم لبنان في حاجة إلى 6 مليارات دولار لإعادة ما دمرته الحرب من بنى تحتية ومساكن ومرافق. لو تم توزيع هذا المبلغ على الدول المشتركة المشاركة في المؤتمر، ومعظمها دول غنية، منها الدول الثماني الشهيرة، فإن نصيب كل دولة من هذه التكلفة يبلغ 100 مليون دولار، بالتمام والكمال.... وهذا المبلغ، يتضاءل بشكل كبير إذا ما أخذنا في عين الاعتبار مشاركة منظمات أهلية، تمثل مجتمعات الدول المشاركة وغيرها، جاءت لكي تساهم في هذا العمل الإنساني الكبير النبيل، دون أن تكون لها بالضرورة أجندة سياسية تريد خدمتها من وراء عرض المساعدة.
ولكن، إذا ما أخذنا الدول المشاركة وحدها، دون جمعيات المجتمع المدني غير الرسمية المشاركة في مؤتمر أستوكهولم، بحسبة اقتصادية بحتة تكون المملكة قد دفعت بالفعل 15 ضعفا لنصيبها من المساهمة في المبلغ المقدر لإعادة إعمار لبنان.. والكويت خمسة أضعاف نصيبها. بعبارة أخرى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بإمكانها توفير كامل المبلغ المطلوب، دون حاجة لمؤتمر لمثل مؤتمر أستوكهولم، قد ينفض دون التزام حقيقي بتقديم أي مبلغ، دون أن تكون له تكلفة سياسية، تتجاوز الحاجة إلى جمعه.
ولكن العملية لا تحسب، اقتصادياً... العملية، برمتها لها أبعاد سياسية. نتذكر أن الولايات المتحدة، أعلن رئيسها، منذ أيام التزام بلاده بدفع 230 مليون دولار... على فكرة أمريكا تبرعت لمواجهة تبعات زلزال «تسونامي» في منطقة جنوب شرق آسيا، بمبلغ يوازي ضعفي هذا المبلغ، أخذاً في عين الاعتبار أن الدمار الذي أحدثته إسرائيل بلبنان، كان بأسلحة أمريكية، بعضها كان يُشحن يومياً من خلال جسر جوي نشط ربط الولايات المتحدة وقواعدها في الخارج بالجبهة الإسرائيلية من القتال، حتى يكون السلاح دائماً متوفراً لدى إسرائيل لإحداث أكبر قدر من الدمار بلبنان ...!؟ ومع هذا نسمع أصواتاً من الكونجرس صادرة من إسرائيل مثل ما قاله السناتور توم لانتوس، رئيس الكتلة الديموقراطية في الكونجرس إن مشروع قانون لإقرار المساعدة المتواضعة التي قال بها الرئيس للبنان لن يصدر من الكونجرس، ولو على جثته..!؟
قس على الموقف الأمريكي هذا من استبعاد احتمال تقديم مساعدات للبنان، مواقف الدول الغنية الغربية المشاركة في مؤتمر أستوكهولم. حتى فرنسا تريد أن تستخدم المؤتمر في إطار المساعدة التي تقدمها للبنان، كما جاءت في باريس واحد وباريس اثنين، قبل اغتيال الرئيس الحريري، حتى لا تتكفل بأية التزامات مالية جديدة تجاه لبنان، وتكون قد سجلت موقفاً من أنها ساهمت في إعادة إعمار لبنان بعد الحرب، وهي في الحقيقة قد لا تقدم شيئاً جديداً، في هذا الخصوص.
ثم لماذا نُحَمِّل العالم وزر ما اقترفته إسرائيل، ليدفع العالم تكلفة الجريمة الإسرائيلية ضد الإنسانية في لبنان، وكأننا لا نبحث عن القاتل الحقيقي، في الوقت الذي نشغل نفسنا بجمع الدية لأهل القتيل. ألم يسأل أحدٌ نفسه، لماذا هذا المؤتمر خصص للبنان، دون إسرائيل..!؟
العالم، بهذا المؤتمر، يدين نفسه، بصورة غير مباشرة، عن دوره المتواطئ مع إسرائيل ضد لبنان، بينما الدول الغنية القادرة على الدفع، وكانت وراء المساندة العسكرية والاستراتيجية لإسرائيل، سوف تتذرع في ما بعد بما تكون قد «تَصَدّقت» به على لبنان، لتغدق مساعداتها الحقيقية على إسرائيل، في مرحلة لاحقة، دون حاجة لعقد مؤتمر دولي لمساعدة إسرائيل، بالتأكيد ستمتنع دولٌ كثيرة عن حضوره، لأنها تعرف أن الحرب كانت عدوانية في الأساس، ومن الصعب معاملة المعتدي والمعتدى عليه، على قدم المساواة. هذا بالضبط هو موقف الدول التي ساندت العدوان، حتى النهاية، لابد أن تكافئ المعتدي على عدوانه، بطريقتها الخاصة وبكرم حاتمي منقطع النظير بعيداً عن أي جدل سياسي يمكن أن يثيره مؤتمر دولي لجمع الإعانات لإسرائيل ولبنان، في نفس الوقت.
هناك، في داخل لبنان، أيضاً، مشكلة سياسية وراء فكرة المساعدة الخارجية لبرامج إعادة إعمار لبنان، لا تختلف كثيراً عن مشكلة الاستقطاب الدولي والإقليمي الذي تعاني منه الحياة السياسية اللبنانية، وكانت سبباً في عدم استقراره، كما أنها مصدر لتوتر سياسي داخلي، لا يعكس بالضرورة مصالح فئات المجتمع اللبناني المختلفة. أثناء الأزمة في داخل لبنان ظهر من قال: إن هناك أموالاً أسماها «نظيفة» ستدخل لبنان، بعد الحرب وتتكفل بإعادة إعمار ما دمرته الحرب...!؟ أين هذه الأموال، ومن أين ستأتي، وهل مجيئها سوف يستفيد منه لبنان، كل لبنان، أم أنها ستكون مخصصة للبعض في لبنان، دون الآخر. على أي حال شاهدنا بعض هذه الأموال «النظيفة»، النقدية والعينية، تصل إلى فئات معينة في لبنان، كانت سبباً، في الحرب... ولم تدخل خزينة الدولة، ليستفيد منها لبنان، كل لبنان، كما هو حال الأموال التي جاءت من المملكة والكويت... ربما تحريضاً، على جولة جديدة من الحرب، ومشهد آخر من الدمار في لبنان.
ثم لنهب أنه تم جمع المبلغ المطلوب، من خلال مؤتمر استوكهولم، وإن كان هذا افتراضا غير محتمل، ولكن لمصلحة التحليل، لابد أن نأخذه في الحسبان: من يضمن أن الوضع السياسي والعسكري على طول الجبهة بين إسرائيل ولبنان، يمنع تطور جولة جديدة، من القتال. هناك قرار أممي بوقف الأعمال العدائية، يمكن لإسرائيل أن تخل به، لتدخل منه لبدء جولة جديدة من القتال.
ما يحتاجه لبنان، ليس معونات اقتصادية، مربوطة بشروط سياسية تكبل سيادته.. وتساوم على وحدته الداخلية، وهويته القومية العربية، التي كانت المستهدف الأساس من وراء كل ما تعرض وسيتعرض له لبنان في المستقبل. لبنان، بالقطع: يحتاج إلى مساعدة اقتصادية، يمكن أن يوفرها العرب، دولاً وشعوباً، بلا منة ولا أذى بل هو واجب والتزام استراتيجي، قبل أن يكون بدافع أخوي أو قومي. وهذا يمكن أن يتكفل به النظام العربي من خلال مؤسساته، حتى لو اقتضى الأمر تدخل مؤسسة القمة، في هذا الخصوص.
لبنان، في حقيقته يحتاج إلى موقف سياسي، من قبل العالم كل العالم، بـ ألا يكون مسرحاً لتسوية خلافات إقليمية ودولية، بين قوىً إقليمية ودولية متصارعة. لبنان، أولاً وأخيراً، في حاجة إلى بناء موقف سياسي داخلي قوي وصلب، من كافة ألوان الطيف السياسي والطائفي والديني، يحول دون استخدام ما ينعكس من شعاع منه، لدخول من يساوم على استقرار لبنان في الداخل، من أجل خدمة أجندات لأطراف خارجية. لبنان، في الحرب الأخيرة، أثبت أنه ليس الخاصرة الرخوة بين جبهات المواجهة الإسرائيلية العربية، لابد أن يستفيد العرب كل العرب، من البلاء الملفت للجبهة اللبنانية، لتكون ضمن منظومة متقدمة لشبكة ردع استراتيجية متقدمة، تحول دون إسرائيل ومن وراءها، بأن تعبث بالأمن القومي للعرب، كل العرب، من خلال لبنان.. أو أي جبهة أخرى، في مواجهة إسرائيل، غير لبنان.
هذا، بالضبط، ما يريده لبنان من داخله ومن العرب ومن العالم... عندها لا تتطور حاجة لمؤتمر مثل مؤتمر أستوكهولم أو غيره.