-A +A
هشام عليوان ــ بيروت
هوى قبل أن يتم عامه الثاني والأربعين حاكما مطلقا لليبيا، أمام ثورة شعبية عارمة، لا تقاس بما كان يسمى في السابق، ثورة الفاتح من سبتمبر التي لم تكن انقلابا عسكريا نفذه عدد من الضباط صغار الرتبة، على الحكم الملكي السنوسي بزعم تحرير ليبيا من الاستعمار و«أذنابه». والمفارقة أن القذافي بدا في كلماته الأخيرة مرتبكا غاية الارتباك، وهو يرى من يسميهم «عملاء الاستعمار» يعيدون ليبيا إلى زمن الاستعمار كما زعم. وكل هذا دون أن يسأل نفسه، ما الذي يدفع شعبا ما لأن يستعين بقوى أجنبية ومنها الدولة التي كانت تستعمر بلاده مطلع القرن العشرين؛ كي يحرر الأرض من حكم زعيم طالما تغنى باستقلاليته إزاء الاستعمار الغربي؟ إنه التناقض القائم بين الشعوب وأنظمة الاستبداد الجمهوري الانقلابي، حيث تضيع الفروق وتضمحل بين محتل خارجي ومستبد داخلي، وكأن الاحتلال والاستبداد صنوان. أو كأن التدخل الخارجي أرحم بالناس من الاحتلال الداخلي، الذي يهلك الحرث والنسل، تحت شعار حماية الشعب، أو صيانة سيادة الدولة أو حفاظا على الهيبة الوطنية، وغيرها من كلمات فقدت كثيرا من معانيها السامية، بسبب ممارسات طويلة من الكبت والقهر دون حساب.
قيل الكثير عن جنون العظمة الذي أصاب القذافي، خاصة في السنوات الأخيرة، فنجاحه في تخطي رفاق السلاح وشركاء الانقلاب، الواحد تلو الآخر، وكان آخرهم الرجل الثاني في النظام، عبد السلام جلود، الذي اختفى عن مسرح الأضواء مطلع عام 1990. وكذلك تغلبه على مخاطر الاغتيال والحصار والعقوبات الاقتصادية بسبب تورطه في تفجير طائرة لوكربي، وأعمال إرهابية أخرى، وقمعه المعارضين المختلفي الاتجاهات، وآخرهم أواخر التسعينات، الجماعة الليبية المقاتلة، حيث أسهمت الحرب الأمريكية العالمية على الإرهاب في تفكيك قيادتها وتسليم أفرادها إليه. وأخيرا توصله إلى تسوية مجزية مع الغرب عقب تسليمه المشروع النووي إلى الولايات المتحدة إثر غزو العراق عام 2003، ودخوله مسار التطبيع مع أوروبا ابتداء من عام 2007. كل ذلك زاد من اعتداده بنفسه وقدرته على تحدي الأهوال والمخاطر، فطمح في ألقاب وهمية، وأمعن في استعراضاته المثيرة للاستهجان والاستغراب، في الداخل والخارج. وكان من أغرب ما أقدم عليه مطلع العام الحالي حين خرج الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إثر انتفاضة شعبية مفاجئة، فظهر القذافي على الشاشات التلفزيونية في خطاب مطول، ينتقد فيه الشعب التونسي على ما فعله بالرئيس بن علي الذي هو بنظره أفضل من تولى الرئاسة في تونس. فبدا وكأنه يستشعر الخطر مسبقا، ويعاند مسار التاريخ، بدلا من اتخاذ إجراءات سريعة لوأد الثورة قبل أن تنطلق، خاصة أن ابنه سيف الإسلام كان قد بعث الآمال قبل سنوات بمحاولات إصلاحية إلى أن توقف كل شيء فجأة بأمر من الزعيم القائد، الذي لم ير في ذلك الحين أن الوقت حان ليكون في نادي الحكام المتقاعدين.

فكيف فهم القذافي دروس الثورتين السابقتين في تونس ومصر؟ وكيف استفاد منهما لإخماد الثورة الليبية في 17 فبراير الماضي؟. من المؤكد أن القذافي وأبناءه رأوا في انحياز الجيش في كلا البلدين نحو الثوار، بداية نهاية الحكم القائم فيهما، فاضطر بن علي إلى الخروج ومبارك إلى التنحي. وبما أن القذافي كان تخلص منذ سنوات من الجيش كقوة وطنية بعد انتفاضة قام بها بعض كبار الضباط اعتراضا على المغامرات العسكرية الفاشلة في دولة تشاد المجاورة، فأصبحت الكتائب العسكرية مجرد تشكيلات أمنية مرتبطة مباشرة بأبنائه وأقربائه. فقد وجد أنه يملك الورقة الرابحة ضد المنتفضين على حكمه، فقرر استخدام كامل ما يملك من قوة عسكرية لسحق الثوار، وعدم اللجوء مطلقا إلى التنازلات التي لا توقف عجلة التغيير، بل تسرع خطواتها.
وليس هذا فحسب، بل قام هو وابنه سيف الإسلام بالدعوة علنا إلى قتل المعارضين واستباحة دمائهم، وأطلق المتطوعين من ليبيين موالين ومرتزقة أجانب، لاستباحة الشعب الليبي المعارض في كل مدينة وفي كل قرية وفي كل شارع وفي كل زنقة، حسب تعبيره. كما اعتبرهم مجرد جرذان تائهين،وما على أنصاره سوى التقاطهم من الشوارع والقضاء عليهم، بكل العنف الثوري الممكن، وأرسل زوارقه وطائراته الحربية لقصف بنغازي، عاصمة الشرق، وموئل المعارضة، فكانت أفعاله وأقواله العنيفة سببا مباشرا للتدخل العربي والغربي الفوري، لتجنيب ليبيا مجازر باتت وشيكة.
والأعجب من ذلك، أنه وعقب صدور القرار الدولي القاضي بحماية المدنيين، سارع إلى إرسال المئات من دباباته عبر الصحراء، في محاولة لاجتياح بنغازي في سباق مرير مع الزمن. فشكّل ذلك حافزا لبدء الغارات الجوية الفرنسية والبريطانية والأمريكية، ضد الأرتال المدرعة على مداخل بنغازي، قبل أن يستلم حلف الأطلسي مهامه رسميا، ما يعني أن القذافي بسوء حساباته إلى حد لا يوصف، أهدر فرصة نادرة لفرض أمر واقع من الانقسام الطبيعي بين الشرق التابع للمعارضة بمعظمه، والغرب الباقي تحت سيطرته بمعظمه.ولتبدأ بعد ذلك مفاوضات طويلة بين الجانبين وذلك لو قبل فورا بالقرار الدولي وأوقف فعلا إطلاق النار، لكنه قبل القرار شكلا وناقضه جوهرا، ما أدى إلى تشديد الخناق عيه، وإلى توالي الضربات الجوية وتعاظم قوى المعارضة برا، حتى كانت النهاية المحتومة بعد ستة أشهر من انطلاق الثورة بخطة منسقة جيدا بين قوات المعارضة حول طرابلس وبين الخلايا الثورية داخل العاصمة، وبين المجلس الانتقالي في بنغازي وقوات الأطلسي الموكلة دعم الثوار.
وليس القذافي برجل بائس العقل، بل عرف عنه حدة الذكاء؛ وإلا كيف تمكن من حكم ليبيا ذات الأهواء القبلية المختلفة وذات ا لمساحة الشاسعة المترامية الأطراف أربعة عقود. لكن ذكاءه خانه في لحظات الأزمة، فأهدر الوساطات التي سعت إلى حل سلمي يضمن له السلامة ولعائلته حتى مع صدور قرارات الاتهام ضده من محكمة العدل الدولية. ولم يستفد من حالات الجمود العسكري على جبهات القتال في الشرق والغرب لكي يخوض مفاوضات ناجعة من أجل التقليل من الخسائر. وقد نجح في التحايل على ضربات الأطلسي، وتمكنت كتائبه من الصمود في الميادين، بشكل أثار الإحباط في كثير من الأحيان لدى دوائر القرار في أوروبا، لكنه قرأ بشكل خاطئ انتصاراته التكتيكية وتوهم إمكانية تحويلها إلى إنجازات استراتيجية بحيث ينتصر على شعبه، وعلى حلف الأطلسي معا!.
وكمن يرى الجبل أمامه فيصر على الاصطدام به، ظل القذافي في خطاباته وكأنه يعيش أحلام الواقع، فيتصور أن الملايين ستزحف لتحرير الجبل الغربي من عملاء الفرنسيين كما كان يقول، وكان ذلك بعدما تمكن الثوار من دحر كتائبه في كل الجبل، وبدأوا يستعدون للنزول إلى الساحل وإلى طرابلس تحديدا. وعندما نزل الثوار إلى الساحل واقتربوا من طرابلس التي قامت فيها انتفاضة عارمة، فحوصرت كتائبه بين الداخل والخارج، دعا أنصاره بالآلاف لطرد الثوار من الضواحي الشرقية للعاصمة، أي تاجوراء وفيها أهم قاعدة عسكرية، في حين أن الملايين كانوا ينتظرون فعلا إما اعتقال القذافي أو قتله أو طرده، أو على الأقل ظهوره على القناة الجماهيرية للمرة الأخيرة، ليعلن تنحيه عن السلطة ووقف إطلاق النار لحقن الدماء، فلن يتذكر الليبيون من كلمات زعيمهم السابق سوى الدعوة إلى القتل حتى اللحظة الأخيرة.