-A +A
د. طلال صالح بنان
إلى أين تتجه المنطقة والعالم، بعد خمس سنوات من أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وما ترتب عليها ومنها من حرب ضروس، امتدت حول العالم، قادتها الولايات المتحدة، بكل إمكانات الردع التي تمتلكها والنفوذ السياسي الطاغي على الساحة الدولية، نتج عنها تورط الولايات المتحدة، نفسها في حروبٍ بأعالي البحار، بعيداً عن الأراضي الأمريكية، بحجة محاربة الإرهاب.. والقضاء على أنظمة «شريرة».. ونشر الديموقراطية... وما إلى ذلك من شعارات، حاولت الولايات المتحدة، من خلالها أن تمرر سياستها التوسعية، ذات الطابع الإمبريالي التقليدي، لتفرض هيمنتها على العالم، من خلال التحكم في مواقع استراتيجية مهمة، كانت تاريخياً، مهوى «أفئدة» أي قوة إمبريالية، تحاول فرض هيمنتها على العالم، ومن أهمها منطقة الشرق الأوسط.
ولكن ما ظهر، بعد أكثر من ثلاث سنوات، من الحرب على الجبهة العراقية، أحرج ليس فقط ادعاءات الإمكانات الاستراتيجية للولايات المتحدة... بل وأيضاً: مشروع التحول الحضاري والسياسي في العالم، التي توقعت مؤسسات السياسة الخارجية الأمريكية في واشنطن، أن بإمكانها تعميمه، كنظام لقيم التعامل السياسي، في داخل المجتمعات، خاصة التقليدية منها، من ناحية، وكمبرر لحركة الآلة العسكرية الأمريكية العنيفة، كأداة للتوسع الإمبريالي الجديد، من ناحية أخرى.

كل العالم، شاهد الرئيس جورج بوش في التاسع من أبريل عام 2003، بعد عشرين يوماً من القتال على الجبهة العراقية، وهو يتباهى على إحدى حاملات الطائرة الأمريكية، مأخوذاً بإمكانات القوة الاستراتيجية الطاغية للولايات المتحدث، مخاطباً جنوده بأن مهمة الجيش الأمريكي في العراق قد انتهت.. وتم إسقاط نظام صدام حسين.. والعراق في طريقه ليقدم نموذجاً للتغيير السياسي والاجتماعي، في مجتمعات المنطقة، نحو الحرية والديموقراطية وإعلاء حقوق الإنسان.
الرئيس الأمريكي، وقف في ذلك الخطاب «الاستعراضي» الكبير، دون أن يعلن انتصاراً كاملاً في المعركة ضد العراق.. واختار عبارة « إنهاء المهمة» Mission Accomplished، التي كانت مكتوبة في لافتة بعرض حاملة الطائرات، وقف تحتها الرئيس الأمريكي يلقي خطابه التاريخي. حسناً فعل الرئيس الأمريكي عندما لم يعلن انتصاره بسبب مشورة من حليفه في الحرب توني بلير، الذي كان أبعد نظراً ونصح الرئيس الأمريكي، بأن يكون أكثر تواضعاً.
بعد أكثر من ثلاث سنوات من تلك الحرب، ينشر البنتاغون دراسة يعترف فيها بصورة غير مباشرة فيها بفشل الحملة العسكرية على العراق.. وأنه لا الجيش الأمريكي ولا بقية قوات الدول المتحالفة معها التي توجد لها قوات في العراق، قادرة على فرض سيطرة أمنية على البلاد، وأن البلاد على شفا حرب أهلية...!؟ بعد أكثر من ثلاث سنوات من ذلك الخطاب الشهير للرئيس الأمريكي الذي أعلن فيه انتهاء مهمة الجيش الأمريكي في العراق، تتردد تلميحات انهزامية، من أعلى مؤسسة دفاعية في البلاد، تعترف بعدم مقدرة الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها السياسية في العراق... ولا حتى وقف نزيف الدم في العراق، الذي انهمر من عروق العراقيين بغزارة.. واختلط بدماء الأمريكيين على أرض العراق.
الرئيس الأمريكي بدا عند عناده التقليدي من أنه بالإمكان تحقيق النصر على جبهة القتال في العراق، وإلا فإن استثمار الولايات المتحدة في الحرب على العراق، سوف ينتهي بهزيمة سياسية مريرة لواشنطن.. وعاد الرئيس الأمريكي، من جديد، ليربط بين الحرب في العراق والحرب على الإرهاب، ليبرر سوء أداء إدارته للتعامل مع تداعيات قرار غزو العراق، الذي كان يصوره الساسة والعسكريون الأمريكيون على أنه نزهة تدريبية للجيش الأمريكي، استعداداًً لحرب أوسع، على مستوى العالم ضد ما يسمونه الإرهاب.الرئيس الأمريكي في رده على تقرير البنتاغون، لم يكن أقل انهزامية من قادة مؤسسته العسكرية في ما يخص الاستسلام لحقيقة فشل الحرب على العراق. الرئيس الأمريكي كان يعترض فقط على الانسحاب الآني والمفاجئ من العراق، الذي ـ من وجهة نظره ـ سيتسبب بهزيمة ماحقة للمشروع الأمريكي، في حربه على ما يسميه الإرهاب. بعبارة أخرى الرئيس الأمريكي، يطلب مهلة من الرأي العام الأمريكي، ليرتب فيها أوضاعه للعمل على الانسحاب من العراق، لتقليل وقع فشل إدارته في مشروعها القتالي الأممي العام... فهو، على أي حال، وصل إلى قناعة ذاتية بأن مشروع غزو العراق، قد فشل... ولكن المشكلة تكمن في ترتيب إجراءات سياسية وعسكرية ولوجستيكية تحفظ إلى حد ما، وجه إدارته والصورة القومية للولايات المتحدة، قبل الإعلان عن فشل مشروع كبير خطط له قبل غزو العراق.
الرئيس الأمريكي، من الناحية السياسية، في حقيقة الأمر، يريد إنقاذ حزبه من هزيمة سياسية ماحقة، داخلياً، بسبب الحرب على العراق.. وإن كان يعمل على تهيئة الأوضاع الداخلية لتصدير المشكلة إلى الحزب الديموقراطي، الذي ترتفع أسهمه السياسية، بسبب قضية الوجود الأمريكي في العراق، بين فئات الشعب الأمريكي المختلفة، في حالة ما إذا اكتسح الحزب الديموقراطي انتخابات الكونجرس القادمة، وكذا انتخابات الرئاسة، بعد عامين.
التاريخ، هنا، يحاول أن يعيد نفسه من جديد، ولكن برموز ومؤسسات مختلفة. نفس المشكلة التي يواجهها الرئيس الأمريكي الآن، هي المشكلة التي واجهها الرئيس الديموقراطي ليندون جونسون أثناء حرب فيتنام، في نهاية فترة حكمه الأولى، وجعلته يصل إلى قرار بعدم محاولة الحصول على ترشيح الحزب لولاية ثانية، تفادياً لهزيمة عسكرية وسياسية كانت مؤكدة للولايات المتحدة في فيتنام. هذا قاد إلى فوز الرئيس الأمريكي (الجمهوري) ريتشارد نيكسون، في انتخابات الرئاسة، لسنة 1968، الذي دخل بأجندة: إنهاء التورط العسكري الأمريكي في فيتنام، وهو ما حصل في ما بعد.
الرئيس جورج بوش الثاني، بمحاولة عدم الاعتراف الصريح بما وصل إليه البنتاغون من قناعة بفشل الحملة العسكرية في العراق، وما كان يتوقع لها من عوائد سياسية واستراتيجية، خاصة بتطلعات الهيمنة الكونية للولايات المتحدة، يحاول أن يكسب مزيداً من الوقت، على مستوى حركة السياسة الداخلية الأمريكية، حتى يخرج من البيت الأبيض، وكذا حزبه، بأقل الأضرار السياسية.. وترك مهمة التعامل مع الأزمة للرئيس القادم، خاصة إذا كان من الحزب الديموقراطي، وهو احتمال كبير، إلى حدٍ بعيد إذا ما استمر التدهور في العراق، كما توقع تقرير البنتاغون.
في كل الأحوال: فإن ما يبدو من خلاف بين البيت الأبيض والبنتاغون، لا يعدو كونه حراكا سياسيا في داخل إدارة الرئيس بوش، لتهيئة الرأي العام الأمريكي، بأن هناك مراجعة حقيقية، في داخل الإدارة، لأداء مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع، تأخذ في عين الاعتبار إعادة صياغة الأهداف من الوجود في العراق، طبقاً لمعادلة الربح والخسارة، دون أي إيحاء مباشر، بأن هناك ـ بالفعل ـ خلافا في داخل الإدارة، في ما يخص التعامل مع الأزمة.
الرئيس بوش، بسبب أزمة العراق، يعاني من تدن متواصل لشعبيته بين الأمريكيين، بصورة لم يعان منها أي رئيس أمريكي، حتى الرئيسان لندن جونسون وريتشارد نيكسون، أثناء حرب فيتنام. كذلك، فإن الرئيس بوش، يحسب حساباً كبيراً، لانتخابات الكونجرس، في نوفمبر القادم، التي من المحتمل أن يخسر الحزب الجمهوري أغلبيته في مجلس النواب.. ومن المحتمل أن يعزز الحزب الديموقراطي مركزه في الكونجرس، بالحصول على أغلبية في مجلسي الكونجرس القادم. إذا تمكن الديموقراطيون، من اكتساح الكونجرس في الانتخابات التشريعية القادمة، فإن ذلك من شأنه أن يفقد الدعم الذي كان يحظى به الرئيس الأمريكي في الكونجرس، حتى من قبل نواب وشيوخ ديموقراطيين، من أمثال السناتور حوزيف ليبرمان، الذي سقط في الانتخابات الأولية للحصول على أحد مقعدي مجلس الشيوخ المخصص لولاية كناتيكيت.
إذا ما فقد الرئيس بوش دعم الكونجرس، في ما يخص مواصلة بقاء الجيش الأمريكي في العراق، فإنه لن يضمن موافقة الكونجرس على دفع تكاليف الحرب في العراق، خاصة ان الحرب في العراق والتورط الأمريكي هناك، هي القضية الأولى التي تهيمن على انتخابات الكونجرس القادمة... بل، وأيضاً، انتخابات الرئاسة، بعد سنتين. وإذا فقد التموين اللازم لمواصلة حملته على العراق، فإن الرئيس الأمريكي، لن يكون أمامه من خيار، إلا الإعلان عن انسحاب مذل لجيش بلاده في العراق... وهذا، بالضبط، ما أبداه الرئيس الأمريكي من خشية أن الانسحاب من العراق، يعني تسليمه ـ حسب قوله ـ للإرهابيين... الأمر الذي يعني هزيمة ماحقة لما أسماها الرئيس بوش: الحرب على الإرهاب.
من هنا لا يمكن تجاوز حقيقة الربط بين تنامي العنف في العراق، وتقلص التصميم الأمريكي، لكسب معركة العراق، كأهم جبهات الحرب على الإرهاب. ما صدر من البنتاغون والبيت الأبيض، بشأن حال الأوضاع في العراق نحو تطور حالة من الحرب الأهلية هناك، لا يمكن فصله عن تدني الحماس الأمريكي تجاه دور العراق، في مشروع الرئيس الأمريكي الكبير، للقضاء على ما أسماه الإرهاب... أو بمعنى أدق: الاقتراب من تحقيق حلم الولايات المتحدة الأمريكية للهيمنة الكونية، بدءاً من السيطرة على المنطقة.
في الفترة القادمة، ستتوالى الهزائم على الجيش الأمريكي في العراق، وكذا من يتعاونون معه في بغداد. وكأن التاريخ هنا يكرر ما حدث لفيتنام الجنوبية أمام زحف الفيتكونغ من الشمال، الذي لم يستطع لا الجيش الأمريكي ولا حكومة سايجون وقفه... وانتهى الأمر بسيطرة الشيوعيين على كامل فيتنام، وخروج الأمريكيين من الهند الصينية، ذلك الخروج المذل، الذي تجلى يوم سقوط سايجون... واجتياح الشيوعيين لمبنى السفارة الأمريكية في ما كان يُعرف بعاصمة فيتنام الجنوبية.
ولكن المشكلة ستكون أكبر لو حدث للأمريكيين وأعوانهم في العراق، ما حدث في تجربة حرب فيتنام. لم يترتب على انسحاب الأمريكيين من فيتنام خلل في التوازن الإقليمي لمنطقة الصين الهندية، كما يمكن أن يحدث لو ترك الأمريكيون العراق، تحت وطيس الحرب الأهلية في العراق. دول في المنطقة ستحاول أن تملأ الفراغ، وتحقق طموحات إقليمية، مثل إيران وتركيا. حتى لو لم يتطور مثل هذا «السيناريو» فإن ما يخشاه الرئيس بوش من سيطرة من أسماهم الإرهابيين في العراق، سيمثل كابوساً مقلقاً للمنطقة، بصورة عامة... تماماً كما فعل الشيوعيون في فيتنام، بعد الخروج الأمريكي من الهند الصينية.
احتمالات الحرب الأهلية في العراق، لا تحددها إمكانات الطوائف المتصارعة في العراق، بقدر ما تتحكم في حركتها السياسات المستقبلية، التي تُرسم في واشنطن.. ويُقاس، من خلالها مدى التصميم الأمريكي، في مسألة التورط في العراق.
الأمور، على أي حال لا تبشر، بخير.