دق جرس الهاتف في ساعة متأخرة من الليل، وأنا خارج المملكة، فإذا باستشارية النساء والولادة تعلمني بأنها في طريقها للمستشفى لتوليد امرأة حامل، دخلت المستشفى قبل ساعة، وتستشيرني في معضلة أخلاقية شرعية حيث إن زوج المرأة الحامل وَقَّع على ورقة، يمنع المستشفى من القيام بعملية قيصرية للأم تحت أي ظرف من الظروف، وإن أدى ذلك إلى وفاة الطفل، فَسَأْلتُ الاستشارية الحاصلة على البورد الأمريكي والتي عملت في أمريكا لسنوات عديدة، سألتها كيف يكون التصرف في أمريكا في مثل هذه الحالات فأخبرتني أنه قلما يحدث مثل هذا التصرف فالأم هي صاحبة القرار الأول والأخير في مثل هذه الحالات، وما حدث هنا يعكس الجهل بالأسباب التي يضطر فيها الطبيب إلى اللجوء إلى إجراء العملية القيصرية وإخراج الطفل سريعا، مثل حالة التفاف الحبل السري حول رقبة الطفل أثناء الولادة، والذي يصعب التنبؤ به وفي حالة حدوثه فإن من تبعات التأخر في إجراء العملية القيصرية موت الطفل أو خروجه للدنيا بعاهة مستديمة نظراً لانقطاع الدم عن الدماغ لفترة كافية لإحداث موت لخلايا المخ ، فسألتها وفي حالة حدوث مثل هذا أي رفض الوالدين السماح بعمل عملية ضرورية لنجاة الجنين فأجابت أنه في هذه الحالة نستعين بالقاضي وإن كان بعد منتصف الليل ونحصل على الموافقة الشفوية منه حيث إن حماية الطفل مسؤولية الولاية اذا قَصَّر الوالدان في دورهما في حماية الطفل الجنين.
استخرت الله وحاولت الاتصال بعضو اللجنة الأخلاقية في المستشفى الدكتور محمد البار، وهو مستشار المجمع الفقهي الطبي لرابطة العالم الإسلامي ومرجعية في مثل هذه المواضيع، ولكن الوقت كان متأخراً فقررت الاتصال بالزوج ففعلت وبدأت حديثي بالدعاء لزوجته ولطفله بالسلامة وتعريف نفسي ثم سألته عن قراره وانه قد يكون إحدى تبعات هذا القرار وفاة الطفل فصرخ الزوج قائلاً «دعه يموت» عندها تغير أسلوبي معه ونبرة صوتي فقلت له إذا قررت أن تقتل ابنك أو أن تكتب عليه أن يعيش طوال عمره بعاهة مستديمة فإنني والطبيبة الاستشارية والمستشفى لن نكون شركاء معك في الجريمة وإنني لا أريد أن أقف معك كَمُتَّهْم أمام الله يوم القيامة والحساب وإنما أقف شاهداً على تصرفك غير المسؤول. عندها تغير صوت الزوج وبين لي أنه لم ينم لمدة 24 ساعة وأنه في طريقه للبيت وبدأ يستمع إلي ففصلت له تبعات قراره فاقتنع ووكلني والطبيبة الاستشارية توكيلاً كاملاً القيام بما نراه صواباً وخيراً للأم والطفل.
وبعد أكثر من عشر دقائق من الحوار تبين لي سبب توقيعه لهذه الورقة فقال لي، سامح الله من قال لي إن العملية القيصرية أغلى من الولادة الطبيعية فخشيت إن وقعت هذه الورقة أن تقوم المستشفى بإجراء العملية القيصرية لما فيه من دخل أكبر. هنا أصابتني الصدمة.. أَوَصل انعدام الثقة بالطبيب المسلم و بالقطاع الصحي في بلادنا إلى هذا المستوى من التشكيك وسوء النية.
أدركت في هذه اللحظة أن التحدي - أعظم التحدي - لن يكون فقط في تحقيق جودة عالية في القطاع الصحي أو إحضار أفضل الأطباء من أنحاء العالم أو اقتناء أفضل الأجهزة الطبية واتباع أفضل السياسات ومعايير الجودة وإنما في استعادة الثقة في الطبيب المسلم وفي القطاع الصحي في بلادنا.
فإعادة الثقة تتطلب جهودا مضاعفة ووقتاً طويلاً خاصة في تخصص مثل الطب لما فيه من تعقيدات ومضاعفات محتملة بل ومتوقعة في أحسن مراكز الصحة في العالم ولاتسمى أخطاءً وإنما مضاعفات متوقعة ومقبولة مادامت لم تتعد النسبة المتعارف عليها دوليا.
في خلال عشر دقائق استطعت إعادة الثقة في الزوج الذي اتضح لي انه على خلق كريم ولكن قد غُرِّر به وغلبه سوء الظن والتعب والإرهاق أن يقوم بالعمل الصواب فسألني ماذا أريد منه فطلبت منه العودة للمستشفى وإلغاء الورقة التي وقع عليها ففعل..
وبعد أقل من ساعة اتصل بي من المستشفى وصوته متهللا يبشرني بولادة طفلهِ ولادة طبيعية ويدعو لي وللطبيبة الاستشارية ولدعمي له واهتمامي بصحة طفله وزوجته وصبري عليه أول الأمر وهنَّأتُه بأن الله كتب له بعودته في تلك الليلة أن يحضر ولادة طفلهِ وأن يكون مع زوجته أثناء الوضع لا في بيته نائما.
ثلاثة مواضيع هامة واجهتها تلك الليلة وثلاث مسؤوليات عظيمة:
الأولى: دورنا كأطباء مسؤولين نقف على هذا الثغر في نشر التوعية الصحية ورفع مستوى الوعي في حقوق المرأة فالذي تجهله كثيرَُ من الأمهات أن قراراً مثل هذا هو قرار المرأة وليس للرجل فيه أي حق فالأم صاحبة القرار والأمر، وليس الأمر للأب فالمرأة هي المتصرفة، وليس للأب صفة شرعية في هذا القرار، بل وفي حالة رفض الأم، خوفاً من الأب، مثل هذه العملية التي فيها نجاة للطفل، وعدم القيام بها يمكن أن يخاطر بحياة الجنين أو يؤدي إلى إصابته بإعاقة مستديمة، في مثل هذه الحالات هناك رأي فقهي قوي يرجح أن يقوم الطبيب أو الطبيبة بإجراء العملية القيصرية لإنقاذ الجنين بدون إذن الوالدين.
الثانية: العمل الجاد والحقيقي لإعادة الثقة في الطبيب المسلم فهذا عامل رئيسي في تحقيق الشفاء بإذن الله وهناك دراسات عديـدة تؤكد أهمية هذا العامل والـذي يسمى اليـوم «Faith Factor»، عامل الإيمان والثقة بقدرة الطبيب وصدقه وإخلاصه وأمانته وفعَالِيَّة الدواء الذي يقدمه.
الثالثة: توضيح القوانين الشرعية الخاصة بالمسائل الطبية ومحاولة تحديث وسائل عرض تقديم هذه القوانين لكل من الطبيب والمريض بطريقة سهلة مبسطة، والعمل مع الجهات المسؤولة في إيجاد قنوات قضائية يلجأ لها الطبيب في مثل هذه الحالات الطارئة وان كان بعد منتصف الليل والتي يحتاج الطبيب فيها إلى حُكم قضائي سريع كما يحدث في بعض الدول الغربية.
استخرت الله وحاولت الاتصال بعضو اللجنة الأخلاقية في المستشفى الدكتور محمد البار، وهو مستشار المجمع الفقهي الطبي لرابطة العالم الإسلامي ومرجعية في مثل هذه المواضيع، ولكن الوقت كان متأخراً فقررت الاتصال بالزوج ففعلت وبدأت حديثي بالدعاء لزوجته ولطفله بالسلامة وتعريف نفسي ثم سألته عن قراره وانه قد يكون إحدى تبعات هذا القرار وفاة الطفل فصرخ الزوج قائلاً «دعه يموت» عندها تغير أسلوبي معه ونبرة صوتي فقلت له إذا قررت أن تقتل ابنك أو أن تكتب عليه أن يعيش طوال عمره بعاهة مستديمة فإنني والطبيبة الاستشارية والمستشفى لن نكون شركاء معك في الجريمة وإنني لا أريد أن أقف معك كَمُتَّهْم أمام الله يوم القيامة والحساب وإنما أقف شاهداً على تصرفك غير المسؤول. عندها تغير صوت الزوج وبين لي أنه لم ينم لمدة 24 ساعة وأنه في طريقه للبيت وبدأ يستمع إلي ففصلت له تبعات قراره فاقتنع ووكلني والطبيبة الاستشارية توكيلاً كاملاً القيام بما نراه صواباً وخيراً للأم والطفل.
وبعد أكثر من عشر دقائق من الحوار تبين لي سبب توقيعه لهذه الورقة فقال لي، سامح الله من قال لي إن العملية القيصرية أغلى من الولادة الطبيعية فخشيت إن وقعت هذه الورقة أن تقوم المستشفى بإجراء العملية القيصرية لما فيه من دخل أكبر. هنا أصابتني الصدمة.. أَوَصل انعدام الثقة بالطبيب المسلم و بالقطاع الصحي في بلادنا إلى هذا المستوى من التشكيك وسوء النية.
أدركت في هذه اللحظة أن التحدي - أعظم التحدي - لن يكون فقط في تحقيق جودة عالية في القطاع الصحي أو إحضار أفضل الأطباء من أنحاء العالم أو اقتناء أفضل الأجهزة الطبية واتباع أفضل السياسات ومعايير الجودة وإنما في استعادة الثقة في الطبيب المسلم وفي القطاع الصحي في بلادنا.
فإعادة الثقة تتطلب جهودا مضاعفة ووقتاً طويلاً خاصة في تخصص مثل الطب لما فيه من تعقيدات ومضاعفات محتملة بل ومتوقعة في أحسن مراكز الصحة في العالم ولاتسمى أخطاءً وإنما مضاعفات متوقعة ومقبولة مادامت لم تتعد النسبة المتعارف عليها دوليا.
في خلال عشر دقائق استطعت إعادة الثقة في الزوج الذي اتضح لي انه على خلق كريم ولكن قد غُرِّر به وغلبه سوء الظن والتعب والإرهاق أن يقوم بالعمل الصواب فسألني ماذا أريد منه فطلبت منه العودة للمستشفى وإلغاء الورقة التي وقع عليها ففعل..
وبعد أقل من ساعة اتصل بي من المستشفى وصوته متهللا يبشرني بولادة طفلهِ ولادة طبيعية ويدعو لي وللطبيبة الاستشارية ولدعمي له واهتمامي بصحة طفله وزوجته وصبري عليه أول الأمر وهنَّأتُه بأن الله كتب له بعودته في تلك الليلة أن يحضر ولادة طفلهِ وأن يكون مع زوجته أثناء الوضع لا في بيته نائما.
ثلاثة مواضيع هامة واجهتها تلك الليلة وثلاث مسؤوليات عظيمة:
الأولى: دورنا كأطباء مسؤولين نقف على هذا الثغر في نشر التوعية الصحية ورفع مستوى الوعي في حقوق المرأة فالذي تجهله كثيرَُ من الأمهات أن قراراً مثل هذا هو قرار المرأة وليس للرجل فيه أي حق فالأم صاحبة القرار والأمر، وليس الأمر للأب فالمرأة هي المتصرفة، وليس للأب صفة شرعية في هذا القرار، بل وفي حالة رفض الأم، خوفاً من الأب، مثل هذه العملية التي فيها نجاة للطفل، وعدم القيام بها يمكن أن يخاطر بحياة الجنين أو يؤدي إلى إصابته بإعاقة مستديمة، في مثل هذه الحالات هناك رأي فقهي قوي يرجح أن يقوم الطبيب أو الطبيبة بإجراء العملية القيصرية لإنقاذ الجنين بدون إذن الوالدين.
الثانية: العمل الجاد والحقيقي لإعادة الثقة في الطبيب المسلم فهذا عامل رئيسي في تحقيق الشفاء بإذن الله وهناك دراسات عديـدة تؤكد أهمية هذا العامل والـذي يسمى اليـوم «Faith Factor»، عامل الإيمان والثقة بقدرة الطبيب وصدقه وإخلاصه وأمانته وفعَالِيَّة الدواء الذي يقدمه.
الثالثة: توضيح القوانين الشرعية الخاصة بالمسائل الطبية ومحاولة تحديث وسائل عرض تقديم هذه القوانين لكل من الطبيب والمريض بطريقة سهلة مبسطة، والعمل مع الجهات المسؤولة في إيجاد قنوات قضائية يلجأ لها الطبيب في مثل هذه الحالات الطارئة وان كان بعد منتصف الليل والتي يحتاج الطبيب فيها إلى حُكم قضائي سريع كما يحدث في بعض الدول الغربية.