مما نسبه الشريف الرضي في كتاب «نهج البلاغة»، وغيره إلى علي رضي الله عنه، أن الدنيا والآخرة ضرتان، من أحب إحداهما أبغض الأخرى..
وهذا المعنى يتم تداوله في الوعظ التقليدي دون تبصر، ويتعاطاه الكسالى والقاعدون عزاء لأنفسهم فيما فاتهم من أمر الدنيا والنجاح فيها ودرك مصالحها، وقد يسترون ذلك تحت مسمى الزهد، أو القناعة، أو غيرها من الألفاظ المستحسنة.
وهذا القول كالرمز أو النموذج لجملة من المعاني والأقوال والنقول؛ التي تجعل المكلف في حيرة ما بين الدنيا والآخرة.
ومن مشهورها أثر: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالما أو متعلما». رواه الترمذي، وابن ماجه، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، وروي عن غيره أيضا مرفوعا وموقوفا، ومتصلا ومرسلا، وهو ضعيف سندا ومتنا.
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن باللعان ولا بالطعان، كما في «الصحيحين»، فإذا لعن الدنيا كلها وكل ما فيها فماذا بقي إذا لم يتعرض للعن! فهل يقدم على ذلك من ينهى عن لعن الناقة أو البعير؟
ربط التدين بالفقر، أو بالمرض، أو بالاستضعاف، أو بالدروشة والغفلة.. كلها معان سلبية تسللت إلى مفاهيم بعض الصالحين، وربما استعانت بنصوص غير صحيحة، أو صحيحة حملت على غير وجهها.
ونفي هذه المعاني من ضروريات الإصلاح الديني والاجتماعي، فليس النجاح الدنيوي وجها للإخفاق الأخروي، وخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
أعظم نجاح عاجل هو السعادة والسرور وقرة العين، ونصيب المتقين منه أعظم؛ {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل:97]. وإن كان يصيبهم مثل غيرهم مرض الجسد أو مرض النفس، فقد تلقى أحدهم مصابا باكتئاب أو قلق، ولكن في الجملة قابليتهم لاستلهام السعادة والرضى أكثر من غيرهم.
والمال نجاح دنيوي.. و«نعم المال الصالح للمرء الصالح». وقد ذهب أهل الدثور بالأجور كما قال الصحابة رضي الله عنهم،كما في «الصحيحين»، وغيرهما، والدثور هي الأموال الطائلة، فهم يتصدقون ويحجون وينفقون ويشاركون سائر المؤمنين في الصلاة والذكر ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والولد من حظ الدنيا الطيب، وقد قال سبحانه: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين} [الطور:21].
وقال عن المؤمنين: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} [الفرقان: 74].
والزواج الناجح كذلك، وهو سبب في العصمة والعفة وصلاح حال الذرية، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في المعاشرة الزوجية صدقة، كما في «صحيح مسلم» من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
وهو معنى غريب على من لا يفهم حقيقة التدين.
والشهرة من مطالب العاجل ولكنها وسيلة محايدة، وربما كانت سببا عظيما للتفوق والنجاح في الآخرة، وكان من دعاء المؤمنين: {واجعلنا للمتقين إماما} [الفرقان: 74]. ومن المعلوم أن الإمامة مرتبطة بالمعرفة، فالأئمة معروفون لأتباعهم بكثير من تفصيلات علومهم وأعمالهم، فضلا عن ذواتهم وأسمائهم؛ ولذا كان أشهر البشر هم الأنبياء؛ محمد، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وإخوانهم صلى الله عليهم وسلم.
وفعل الخير للناس؛ من إحسان، أو معروف، أو إصلاح هو مما يؤجر فاعله، حتى من غير احتساب أو نية، وما ذلك إلا للحفز على المبادرة وعدم التردد: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} [الحج: 77].
فإن يرق قلبك لمسكين أو يتيم أو ضعيف أو مشرد، أو أن تسعفه بكلمة أو دمعة أو مال، أو أي من صنوف الدعم، فذلك قربى وزلفى إلى الله، وهو من أعظم أسباب الفوز والنجاح والسعادة في الدنيا.
ومن طريف ما ذكره العلماء: المقارنة بين الغني الشاكر، والفقير الصابر؛ كما ذكر ابن القيم مناظرة في ذلك وبحثا طويلا، ومثله المريض الصابر، والصحيح الشاكر.. والأقرب أن أفضلهم أتقاهم كما قال سبحانه: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13].
وهما صنفان من الناس، بل حالان من أحوال البشر، وقد يتقلب المرء بين هذا وهذا.
فنجاح الدنيا, بسعة النفس، وبسطة المال، وصحة البدن، والزوج، والأهل، والولد، والتفوق، حسن جميل، ونعمة جليلة يسعى لها الناس بحكم فطرتهم، ويحرصون عليها ومنهم الموفق والمحروم.
وثم صلة إيجابية بين نجاح الدنيا ونجاح الآخرة؛ ولذا قال سبحانه: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون* لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [يونس: 62-64]. وقال: {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [فصلت: 31]. وهذا لا ينافي أبدا أن أبواب الجنة والفضل والعطاء الإلهي الأخروي مفتوحة لأولئك المحرومين من نعيم الدنيا أو المبتلين بمصائبها وآفاتها؛ من مسغبة أو علة في بدن أو نفس أو مال أو أهل أو ولد، مشرعة للمساكين الذين لم يظفروا من متاع الدنيا بطائل، فهذا خير عزاء وسلوان لهم أن يدركوا أن النعيم المقيم في انتظارهم ليصبروا على عناء الدنيا ونصبها، ولمثل هؤلاء تساق نصوص الصبر: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10].
والمؤمن يتقلب بين هذا وذاك، وله في كل حال عبودية تناسب ما هو عليه، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له». رواه مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه.
التنافس الشريف في مصالح الدنيا ونجاحاتها أمر محمود، وسبب في استمرار الحياة، وتحسن أداء الناس فيها، وحدوث التنمية، واكتشاف الإمكانات المخبوءة، وظهور الإبداع، وقد سلط الله الإنسان على الكون، وجعل ما في السماوات وما في الأرض مسخرا لهذا المخلوق المختار: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} [الملك:15]، {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثـية: 13].
وقد يكون الفقر والمرض والحرمان والإخفاق في الحياة؛ مصحوبا بالكفر والظلم والتسخط والعجز, فيخسر صاحبها الدنيا والآخرة.
أو يكون الغنى والصحة والقوة؛ سببا للطغيان والجحود والاستكبار.. ولذا كان من دعاء المؤمنين: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} [البقرة: 201].
ثم حاجة إذن إلى إعادة ترتيب هذه المفهومات وتصحيحها وكشف الالتباس عنها, لنكون في الدنيا من المتنافسين، وفي الآخرة من الفائزين، والله ولي الصالحين.
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة