-A +A
علي الدميني
في كتاب الروائي «أمين معلوف» الموسوم بـ«الهويات القاتلة»، نراه ينحو فيه باتجاه ما تطرحه رؤى «ما بعد الحداثة»حيال مفهوم «الهويات» من أنه قد أصبح جزءا من تركة الماضي الثقيل، التي لم تعد قادرة على التماسك إزاء المنطق الجامح لعمليات التواصل والتفاعل الثقافي والسياسي والحضاري «المعولم»، الذي يرون أنه قد استقر كحقيقة معاشة في كل أرجاء العالم.
وقد أوغل «معلوف» في تتبع الوجوه السلبية لتلك «الهويات» حتى خلع عليها صفة «القاتلة».

ولعله كلبناني الجذور وفرنسي اللغة والمعيش، قد استدعى زمن الحرب الأهلية في لبنان الممتدة من منتصف السبعينيات حتى أوائل الثمانينيات، وما فعلته بالوطن الصغير، الواحد والتعددي بحكم الضرورة والتاريخ، حتى انزلق الناس إلى همجية «القتل على الهوية»، في مساحة محدودة يعيش فيها أكثر من عشرين مكوناً «إثنيا، وعقائديا وثقافيا».
وبالرغم من أن مكونات تلك الهوية لم تكن المحفز الأساس على اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، إلا أنها، و في دوامة التمترس والاصطفاف غدت حواضن لحماية الذات ضد عنف الآخر، وساحات مقاصل لاغتيال التعايش بين الهويات المختلفة، فجاز لـ«معلوف» أن يطلق عليها صفة «القاتلة».
إن الهوية هي خصيصة وجود بشري بالضرورة، وهي مزاج قابل للتغير والنماء والإسهام في جماليات التنوع وإثراء مضامين الحياة الثقافية والاجتماعية للبشر، وهي في أشد حالاتها وضوحاً وسذاجة أيضاً، تعني «الذات» و«الشخصية» على مستوى الفرد أو المجموعات، ومن أبرز خواصها التمايز والمغايرة خضوعاً لطبيعة المكونات الأساسية لهذه الذات، أو الشخصية.
وحين نفحص المركبات العامة لتكوينها، بدءاً من اللغة والعقيدة، والأفكار، وصولاً إلى الأذواق والأعراف، والسيكولوجية الاجتماعية، وغيرها، فإننا لا يمكن أن نجد إلا مكونات قابلة للتعدد وللاختلاف، في ضوء إمكانية طبيعية للتعايش والتفاعل الثري مع الآخر فرداً في العائلة، أو الحي أو الوطن، أو العالم.
وبهذه الخصائص الطبيعية كان يمكن «للهوية» أن تبقى ممارسة معافاة للتنوع والاختلاف، مثلما يحدث ذلك بين أفراد العائلة الواحدة، وكان ينبغي التعامل معها كوجود نوعي وطبيعي، لتفرد الشخصية لكل منا واختلافها عن الآخرين، وهو ما يؤكد إنسانيتها، وثراءها الوجودي معاً، ويرفع عنها فرية التوحش أو إمكانية تحويلها إلى أداة توحش، ولكن!
«لكن» هذه، يمكن تتبعها وغيرها في كتاب الدكتور سعد البازعي، الذي يولي مفهوم الهوية والتفاعل الثقافي، بحكم تخصصه واهتماماته الثقافية، عناية خاصة، وقد صدر الكتاب مؤخراً تحت عنوان «العولمة والهوية والتفاعل الثقافي». وقد وفق المؤلف في سك هذا العنوان الذي سوغ له تجميع العديد من الأبحاث والكتابات، التي أنجزت في أزمنة ومناسبات مختلفة، وتخطى بهذا العنوان أزمة يقع فيها كل من حاول لم شتات ما تناثر من أفكاره وتأملاته المكتوبة، في قضايا تبدو متعارضة أو متفرقة على وجه العموم.
وفي الكتاب ما يستحق القراءة والحوار، وما يعالج الكثير من الإشكالات، معتمداً على مصادر جلها نتاج غربي، وعلى رؤية تحمل بصمات استقلاليتها، مؤكداً بذلك حرصه على البحث عن الأفكار في مظانها الأصلية ،و متوقفا أمامها بالبحث والتحليل والنقد و إغناء المتون بقراءات ثقافية مقارنة.
وحيث لا يتسع المقام لعرض أهم ما حفل به الكتاب، ولا الوقوف عند مفاصل الصراع بين الهوية والعولمة، ولا الحوار حول بعض تطرفات الهوية المستضعفة، التي وردت في مقالات آخر الكتاب، فإنني سأكتفي بالوقوف أمام العنوان فقط، حيث إن هذا العنوان الدقيق لم يعـِن الكاتب على إيجاد الخيط الناظم لمواده وحسب، ولكنه قد لخص بذكاء مضمون الكتاب، وما يشتمل عليه من جدل معرفي،وصراع واقعي ملموس بين الهويات، على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية.
وحين نقف أمام كلمة «العولمة» التي بدأ بها العنوان، فإن هذه الكلمة «المصطلح» تستدعي معها كل أشكال تجلياتها القديمة والمرتبطة بمفهوم «القوة» والسيطرة التي تمتلكها جهة ما وتسعى بواسطتها إلى فرض هيمنتها على فضاءات ومناطق أخرى، خارج حيز وجودها الفعلي.
وقد تجلى ذلك في التاريخ البشري منذ الحروب الصغيرة في العصور البدائية، حتى مراحل تكوين الإمبراطوريات الكبرى، وحروب الفتوحات، وتكوين الدول الكبرى، وكان آخرها وأشدها شراسة الحربين العالميتين، وما انطوت حقبهما عليه من استعمار الغرب لمعظم مساحات إفريقيا وآسيا، وما لحق بالعالم العربي جراءها من كوارث، مازلنا نرزح تحت أعبائها حتى اليوم.
و حين نأخذ الكلمة الثانية في العنوان «الهوية»، فإن المؤلف يضعنا مباشرة إزاء جدل النقيضين وصراعهما، فتنهض الهوية بدور مواجهة مفهوم القوة والسيطرة، ولذا فإن الهوية التي نقر بأنها حقيقة بشرية قابلة للتطور والتحول والتفاعل مع الآخر، تخرج من بشريتها وإنسانيتها، ويتم استدعاء أقسى ما تنطوي عليه من «توحش»، في سبيل مقاومة سلطة القوة والقهر المفروضة عليها.
وفي ضوء هذا الصراع بين مكوني الجزء الأول من عنوان الكتاب، نكون قد حكمنا سلفاً على طبيعة الجزء الأخير من العنوان «التفاعل الثقافي» وتلمسنا ما ينطوي عليه من استراتيجية ثقافية أو تأليفية. وقد تمت تجلية هذا الأمر بشفافية عالية في حديث المؤلف عن الموسوعة العالمية المترجمة إلى العربية، حيث عمل محررا رئيسا لنسختها الثانية، فأوضح لنا كيف تقابلت الهويتان الغربية والعربية في معركة دارت داخل فضاء معرفي عام يتسم عادة بالحياد الموضوعي، ونجم عن ذلك حذف ما يقارب 50 % من الأصل الغربي، وتمت إعادة كتابة الكثير بعين الهوية المستضعفة إزاء ما دونه صاحب الهوية القوية، من أخطاء حقيقية أو متوهمة.
ولا يستطيع من لم يقرأ النسخة العربية من الموسوعة تحديد صواب أو خطل ما تم تصويبه أو حذفه، ولكن لا أحد يجزم بأن شيئا من نرجسية الهوية المستضعفة وإدعاءاتها بالكمال، لم يقم بممارسة شيء من تجميل الصورة أو طمس لبعض الحقائق، لأسباب مختلفة.
وحين أخرج هنا من تأثير كلا الكتابين، عن الهوية، فإنني وبحكم تكويني النفسي والثقافي، أميل إلى ما تذهب في طريقه أفكار «ما بعد الحداثة» من قول، بأن الهويات القديمة قد باتت في حكم التاريخ، وأن البشرية إزاء ما تفعله منجزات التقنية، و ما تتضمنه الاتفاقات السياسية والتجارية من تبعات، لا تملك إلا الانتماء إلى جذرها الإنساني العام، خارج الترسبات القاتلة للهويات.
ولكن كيف نصل إلى ذلك الحلم الطوباوي الجميل، في العمل على أنسنة الهوية خارج ما لحق بها من توحش، ما دامت آليات القوة ( ومنها مفهوم العولمة )، تمد الأقوياء بالمزيد من شراسة السيطرة والاستبداد الناعم تارة، والدموي تارات أخرى، ضد معظم سكان أرجاء المعمورة؟؟
ALIALDUMAINI@YAHOO.COM