أثبتت الأحداث الجارية وما يواجهه العالم اليوم، في المجتمعات الشرقية والغربية على حد سواء، أن الدعوة التي دعت المملكة منذ بدء تأسيسها وتوحيدها كانت الدعوة الحق والطريق القويم في ظل التيارات المتلاطمة والأفكار العاصفة التي زلزلت كثيرا من الأمم وأدمت الكثير من المجتمعات.
فالإسلام المعتدل والمتسامح والمستمد من سيرة الرسول الله عليه وسلم في نشر رسالة الله في الأرض باللين واليسر والإحسان للناس هو بلا شك وبكل الشواهد هو المنجاة لنا وللعالم من هول الخراب وفجيعة الدمار.
ولهذا عندما يعيد الأمير خالد الفيصل استقراء هذا المنهج ويستجلي خطابه فإنه إنما يسلط الضوء على تجربة فريدة واستثنائية في أسلوب الحكم وأسلوب الحياة.
لان الاعتدال السعودي كما عشنا في كنفه وكما حدد أطره سموه الكريم إنما هو مصطلح واضح لا التباس فيه ويدل دائما على أن نعرفه ونعيشه ونحياه، فهو منهج ثابت، وهو اعتدال بمعنى التزام العدل الأقوم، والحق الوسط بين الغلو والتنطع، وبين التفريط والتقصير، وهو التفسير العملي لقوله جل وعلا (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهِيدا)، حيث فسر الرسول صلى الله عليه وسلم الوسط هنا بالعدل.
ولفت سموه النظر إلى وصف (الاعتدال الروحانية، وهو وسط بين من أله الأنبياء، وبين من كذبهم وقتلهم، وبين من يسيد العقل مطلقا وحده، ومن يعطلونه تعلقا بالوهم والخرافة).
وبين هذين الحدين الذي وقع فيهما المتطرفون من الطرفين المغالين في الاعتماد على العقل إلى حد قتل الروح أو المغالين في قتل العقل إلى حد الغرق في مستنقع الخرافة جاء الإسلام المعتدل وسطا وجاءت الدولة السعودية لتستلهم من قبس هذا النور العظيم عماد حكمها.
ولن تعوزنا النماذج التي تؤكد أن كل ملك أو حكم مهما كان عندما يشطط عن منهج الاعتدال كيف يصطدم مع واقعه ومستقبله أيضا. وعند هذه النقطة كانت التفاتة الأمير صائبة تماما وفي سياقها الحقيقي حينما عرج بعد هذه التمهيدات إلى أن إنكار خصوصية هذه البلاد باطل وعار عن الحقيقة تماما، فهي بلد الحرمين الشريفين، ومهبط الوحي بآخر الرسالات، وبلسانها العربي نزل آخر الكتب السماوية، ومنها بعث خاتم الأنبياء والرسل عربيا، وقد شرفنا المولى جل وعلا بجوار بيته العتيق، ومسجد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وبخدمة ضيوفه من الحجاج والمعتمرين والزوار، لذلك فإن هذه البلاد وإنسانها، على رأس المكلفين بتبليغ الرسالة ونشر الدعوة، وتقديم المثل والقدوة للإسلام مواطنا ودولة، فالخصوصية هنا تشريف وتكليف معا.
ومن هذه النافذة نستطيع أن نحدد خيارنا قياسا بما حدث ويحدث حولنا في المنطقة التي ننتمي لها وإلى العالم الذي ننضوي تحت مداراته لنجد «أنه في خضم الأحداث الراهنة في الوطن العربي، والنتائج الأولية التي تشير إلى التوجه الإسلامي في الكثير من بلدانه ما يؤكد أن الثورات العربية الحالية، تختلف عن الثورات الأوروبية في العصور الوسطى، حيث قامت الثورات هناك ضد الكنيسة، بينما تقوم هنا الآن لصالح المسجد وهذا يحتم تقديم ــ منهج الاعتدال السعودي ــ نموذجا ناجحا للدولة الإسلامية، المتمسكة بالقيم الإسلامية، والمنفتحة على المكتسبات العلمية والحضارية للعصر، فيما لا يتعارض مع جوهر الإسلام وقيمه».
إن هذه القراءة الفاحصة والدقيقة تؤكد بما يدع مجالا للشك أن التطرف لأية جهة كانت مهما استقوى فإن نهايته كارثية على من يتبناه، بينما منهج الاعتدال والذي في حالتنا هذه تحديدا منهج الاعتدال السعودي فإنه استطاع أن يكرس دعوة الاسلام في التسامح على أكمل وجه باعتبار أن التسامح حسب المنهج السعودي هو ما اقتنع به العالم الآن حين جاءت المادة الأولى من (إعلان مبادئ بشأن التسامح) المعتمد من قبل المؤتمر العام لليونسكو في 16 نونبر 1995 بهذا «إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال التعبير، وللصفات الإنسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح، والاتصال وحرية الفكر والضمير، وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب»، وتضيف نفس المادة أن التسامح لا يعني التنازل أو التساهل، بل هو قبل كل شيء موقف إيجابي، يقر بحق الآخرون في التمتع بحقوقهم وحرياتهم الأساسية المعترف بها عالميا، ولا تعني تقبل الظلم الاجتماعي، أو تخلي المرء عن معتقداته أو التهاون بشأنها...
إن كل هذه المعطيات التي يذكرنا بها التاريخ أو نراها على الواقع تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن أكثر الدول المنهارة وأكثر المجتمعات المنكوبة وأكثر الثقافات تخلفا هي التي تحارب التسامح وتشذ عن قاعدة الاعتدال.
ولذلك فإن الخيار الذي اختطه الموحد الملك عبدالعزيز آل سعود والمنهج الذي سار عليه استلهاما من مؤسسي الدولة السعودية في كل مراحلها وانتهجه بعد ذلك أبناؤه وكرسه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في العالم أجمع إنما هو السبيل الوحيد لإنقاذ المنطقة والعالم من ثقافة الانتقام، والبغض والحقد، ثقافة الجدل المفضي إلى النار والهلاك، ثقافة بث الرعب والشك والظن، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من مجانبة الصواب، واتباع شريعة الغاب والذئاب، فبات العالم قلقا متوترا في صراع دائم مع نفسه ومع محيطه.
وفي هذا السياق قدم سموه الكريم نماذج استثنائية لتجربة المملكة تحت منهج الاعتدال سياسيا وثقافيا واقتصاديا من آلية التعامل مع الآخر إلى رفض الاحتكار الاقتصادي ملمحا إلى جزئية مهمة جدا هي أن المملكة وقفت «منفردة بفضل الله ثم بمنهج الاعتدال، أن تثبت أمام كل التيارات الإلحادية اللا دينية، التي اجتاحت المنطقة العربية، منذ مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، ولا تزال تطل برأسها حتى يومنا الحاضر، وظلت المملكة وحدها على الساحة قابضة على الكتاب والسنة، بمنهج الاعتدال فيهما، رغم ما كلفها ذلك من اتهامات باطلة، ونعوت استفزازية، ومؤامرات دنيئة من القاصي والداني منذ نشأتها وإلى يومنا هذا».
وفي هذا السياق أيضا أكد الأمير خالد الفيصل على المملكة مثلما واجهت التطرف الفكري وقفت أيضا ضد التطرف الديني حيث «واجهت التطرف والإرهاب في الداخل والخارج بكل الحزم، انطلاقا من موقفها الثابت الذي أعلنه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، في اجتماع لجنة متابعة تنفيذ الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب في تونس عام 2000م، حين قال سموه: (إننا نأتي في طليعة الأمم والشعوب التي تنبذ العنف والإرهاب بكافة أشكاله وأنواعه، وندعو إلى التسامح والإخاء والمحبة، انطلاقا من مبادئنا الإسلامية التي تحرم ترويع الآمنين وسفك دماء الأبرياء، والتعدي على الحقوق والممتلكات، وانتهاك الأعراض والحريات، ونشر المعرفة بتوفير كافة وسائلها وآلياتها، من خلال افتتاح المدارس والجامعات، وابتعاث ما يزيد عن مائة ألف من أبنائها وبناتها إلى أرقى جامعات العالم لكل التخصصات، في أضخم مشروع تعليمي يشهده وطننا العربي في العصر الحديث).
إن هذا الأنموذج السعودي الفريد في استلهام الاعتدال ونشر ثقافة التسامح لهو مؤشر على قدرتنا في المضي بقوة نحو المستقبل بكل جرأة وثقة بالنفس وبالإمكانيات التي لدينا وبالمعرفة التي نبذل كل مانستطيع للوصول إليها والحصول عليها.