-A +A
صالح عبدالرحمن المانع
يدخل العراق عامه الرابع تحت الاحتلال، وبين مظاهرات الآلاف في المدن الأمريكية والأوروبية والعراقية المنددة بالحرب، يظهر الرئيس بوش ورئيس أركان حربه في العراق الجنرال (أبي زيد)، ليعلن أن القوات الأمريكية لم تغز العراق لتغادره بل لتبني لنفسها قواعد عسكرية دائمة، في هذا البلد المنكوب. وهي لن تغادر عن قريب، بل ربما تخفف تواجدها في المدن الرئيسية وتعطي مسألة حماية الأمن في المدن المكتظة بالسكان لقوات الشرطة والحرس الوطني العراقي.
والشيء الوحيد الذي يسجل للمقاومة العراقية، هو أنها استطاعت أن تقاوم حتى الآن لفترة فاقت فترة المقاومة العراقية السابقة عام 1920م، والتي استمرت أقل من عام واحد، فيما سمي بثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني لهذا البلد قبل ثمانين عاماً. ولعل ما يتفق عليه مهندس الحرب (ديك تشيني) مع الساسة العراقيين الممثلين بإياد علاوي (رئيس الوزراء السابق) والشيخ (حارث الضاري) رئيس رابطة علماء المسلمين في العراق، هو أن هذا البلد يسير على حافة حرب أهلية. فعمليات الاقتتال بين مختلف الميليشيات العراقية (سواء التابعة لفيلق بدر) والمتلبسة بلباس الشرطة العراقية، أو الجماعات المسلحة المضارعة للوجود الأجنبي في البلاد، تحصد يومياً أرواح خمسين إلى ستين شخصاً. حتى ليقال بأن عدد المدنيين الذين قتلوا في هذه الثارات وصل إلى ألف مدني منذ أحداث مدينة سامراء قبل شهر ونصف.

ولا يعاني العراقيون من عمليات المداهمة والقتل والاختطاف فحسب، بل تقوم القوات الأمريكية وحلفاؤها من قوات الجيش العراقي بعمليات تدمير مبرمجة ضد المدن والقرى العراقية في المناطق الوسطى من البلاد بمعدل عملية عسكرية واحدة كل شهرين أو ثلاثة أشهر، فبعد عمليات الإبادة ضد الفلوجة في الربيع الماضي، جاءت عمليات قصف مدن القرى العراقية في غرب البلاد وبالقرب من حديثة في شهر نوفمبر، وتلتها قبل أيام قليلة عمليات عسكرية ضد مدينة (سامراء) التي كان الخلفاء العباسيون يسمونها (سرّ من رأى). وأصبحت اليوم يبابا تحزنك أن تراها، وطائرات المحتلين تقصفها بالعشرات، ودباباتهم ومجنزراتهم تدك بيوتها، وتقتل أهليها، حتى غادرت أكثر من ثلاثمائة عائلة من أهاليها منازلهم، هرباً من قصف جوي وتدمير للحرث والنسل.
وبينما يدين العالم أجمع عمليات الاقتتال اليومية في العراق، لا يعير الإعلام المقروء أو المسموع الشيء الكثير لما يتم على الأرض من توجيه العربات المجنزرة والطائرات ضد مدن مسالمة. ولو تمت هذه العمليات العسكرية في أراضي أخرى لنظر إليها العالم على أنها بالفعل جرائم حرب. وقد تفضلت علينا جريدة التايم الأمريكية لتصف جزءاً مما حدث في (الحديثة) من قتل جماعي بأنه جرائم حرب، واضطر الجيش الأمريكي للاعتراف بما اقترفه جنوده، ولكن إذا ما نظرنا لما حدث من محاكمات لعسكريين في جرائم أبوغريب والفلوجة، فعلى الأغلب فإن المتهمين في جرائم الحرب التي تتكشف كل يوم سوف يحصلون على إقصاء مبكر من الخدمة العسكرية.
وكي يعود المرء إلى الموضوع الذي ابتدأه، فإن مستقبل العراق لا يبدو اليوم زاهراً. فبرغم مقتل 2500 جندي أمريكي في هذه الحرب، ورغم صرف قرابة 300 بليون دولار عليها، فلا يبدو أن الإدارة الأمريكية راغبة في إنهاء وجودها في هذا البلد المنكوب بالاحتلال.
ولكن هل يرضي الشعب الأمريكي بدفع قرابة ستة ملايين دولار يومياً على مصاريف قواته في العراق. والجواب الذي يبدو أن كلاً من السيدين بوش ورامسفيلد بدآ في إدراكه هو أن الشعب الأمريكي لا يبدو راغباً في إدارة حرب جديدة على غرار حرب فيتنام لسنوات طويلة قادمة. وحتى لو أصرت الإدارة الأمريكية الحالية على مسارها العسكري، فإنها لن تبقى في السلطة لأكثر من عامين، وسيتلوها على الغالب إدارة ديموقراطية ستعيد النظر في مثل هذا الاحتلال، وستوازن بين مغانم الحرب ومغارمها، وستدرك أن خسائر الحرب تفوق غنائم الاستيلاء على آبار النفط العراقية، ومصافيها.
لذلك فإن المسألة القائمة هي حرب إرادة بين قوات المقاومة وقوات الاحتلال. وستحاول القوات المحتلة أن تبذر بذور الفتنة بين أبناء الشعب العراقي الواحد. كما ستحاول حصار المقاومة وإنهاء أي دعم محتمل لها من الخارج.
من جانبهم فإن السياسيين الجدد في المنطقة الخضراء في بغداد سيحاولون تفتيت البلاد إلى كيانات صغيرة، حتى يحصل كل واحد منهم على إدارة إقليم خاص به، وتحميه فيه ميليشيات قد استقدم معظم أفرادها وضباطها من خارج البلاد.
والعراق اليوم على مفترق طرق، فإما أطماع محتل وسياسي جديد يتشدق بوحدة اسمية، وتقسيم فعلي، أو إرادة سياسية حقيقية تنتشل العراق من الهاوية التي يقف على حافتها، وتعيده إلى حظيرة البلدان المتحضرة والمتقدمة.
وحين نقول بأن العراق قد مني بالأرزاء، فهو في الحقيقة كذلك. ففي الخمسينات والستينات كانت البلاد تعاني من انقلابات عسكرية، وعدم استقرار سياسي. ومثل تلك الانقلابات لم تكن تؤذي المواطن العادي، إلا أنها كانت توقف عجلة النمو الاقتصادي. وطالت هذه الانقلابات الطبقة المتوسطة والمتعلمة التي آثرت أن تغادر البلاد في طفرات متتالية بعد كل انقلاب عسكري. أما اليوم وبعد هذه الحروب التي استمرت زهاء خمس وعشرين عاماً منذ أوائل الثمانينات، فإن حياة المواطن العادي قد أصبحت جحيماً لا يُطاق. وأصبح الناس لا يأمنون على حياتهم أو حياة أولادهم حين عودتهم أو ذهابهم إلى المدارس.
كما أن الوعود التي وعدها الرئيس بوش العراقيين بالمن والسلوى وإعادة البناء، قد تبخرت اليوم مثل ما تبخر حلم العسكريين الفاتحين، بأن أبناء الرافدين سيستقبلونهم بماء الورد وأكاليل الزهور.
العراق اليوم وشعبه في مأزق، والإرادة الأمريكية اليوم هي كذلك في مأزق، ولن يتم الخروج من هذا المأزق المشترك إلا بإدراك الإدارة بأن حياة البشر ثمينة، سواءً كانوا عراقيين أو أمريكيين. وأن ما ارتكب من جرائم في العراق، يجب محاسبة القائمين عليها، وتقديمهم إلى محاكمة دولية عادلة، وليس إلى محاكمات عسكرية من ضباط المارينز.