لم يكن الطبيب حمد المانع يعلم لدى عودته من بعثة الدكتوراه من جامعة هايدلبرغ الألمانية أنه لن ينتظر أكثر من عشرة أعوام لتحقيق حلمه في أن يكون وزيرا للصحة، فنال الثقة بامتياز، ولم يتنكر للمجمع الطبي الذي بدأ مهنته منه فاستمر يعمل فيه يومين في الأسبوع.
المانع بكل ما أحاط مسيرته من تجاذبات وأزمات، هو ضيف «عكاظ» في حلقتين هذه أولاهما.
• من هو حمد المانع وزير الصحة السابق؟
• مواطن عملت أولا طبيبا مقيما وأخصائي أنف وأذن وحنجرة في مجمع الملك سعود الطبي وابتعثت للدكتوراه في جامعة هايدلبرغ بألمانيا عام 1990م وحصلت عليها في العام 1994م ثم عدت لذات المستشفى وأكملت عملي في تخصصي وأنا فخور بعملي في هذا المستشفى نظير خبرته الطويلة على مستوى المنشآت الصحية بالمملكة وتواجد كفاءات عاليه فيه إضافة لخدمته شريحة كبيرة من المواطنين ولم أفكر بالانتقال لأي مستشفى آخر وحتى بعد تعييني في وزارة الصحة عام 1424هـ استمر عملي فيه يومي الأحد والثلاثاء أسبوعيا ولم أنقطع عنه حتى اليوم.
وفي العام 1996م وبعد حصولي على الدكتوراه بعامين، تمت ترقيتي كاستشاري بالمستشفى وطلبت مني الوزارة في ذلك الوقت أن أعمل مسؤولا عن منشآت القطاع الخاص في مديرية الشؤون الصحية بالرياض ومكثت في منصبي ثلاث سنوات ليوجه بعدها وزير الصحة آنذاك الدكتور أسامه شبكشي أن أعمل مساعدا لمدير عام الشؤون الصحية بمنطقة الرياض لتتم ترقيتي خلال عام واحد مديرا للشؤون الصحية واستمريت في منصبي عامين وثمانية أشهر حتى نلت الثقة الملكية بتعييني وزيرا للصحة عام 1424هـ وأمضيت في منصبي ست سنوات وأعتبر المحطات التي مررت بها تجربة ثرية بالنسبة لي وأنا بصدد إصدار كتاب عن تجربتي.
• عمدت لاستخدام أسلوب المفاجأة في جولاتك التفتيشية عندما كنت مديرا للشؤون الصحية بالرياض .. ما أبرز مواقفك؟
• لو حرم المسؤول نفسه من الجولات الميدانية، فإنه قد حرم نفسه من أشياء هامة وهي تمكنه من تحقيق هدفين رئيسيين أولا بالوقوف على سير العمل دون ترتيب أو تنسيق مسبق ومقابلة الجمهور وهي من صلب توجيهات خادم الحرمين الشريفين حفظه الله للوزراء بسماع آراء الناس. وحقيقة إنني تشبعت من مدرسة الأمير سلمان بن عبدالعزيز في الإدارة عندما كنت أعمل في الشؤون الصحية بالرياض واستفدت من طريقة سموه في مقابلة الناس من ناحية الإصغاء إلى صغيرهم وكبيرهم وغنيهم وفقيرهم وقد اتبعت ذات النهج حتى عندما توليت وزارة الصحة.
لقد استفدت من الجولات واكتشفت أنه مهما وردت تقارير للمسؤول فإنها لن تعطيه صورة كاملة عن الوضع إلا إذا وقف على أرض الواقع وقد تمكنت من حل كثير من المشاكل مباشرة أثناء وجودي في الموقع.
أتذكر موقفا مضحكا مبكيا في نفس الوقت عندما كنت في صحة الرياض، أتاني بعض المواطنين وذكروا أن هجرتهم تضم عددا كبيرا من السكان يربو على ألف شخص ولا يوجد بها مركز صحي، تحققت من ذلك ووجهت بسرعة افتتاح المركز وبعثت لهم طبيبا وممرضا للعمل فيه، الطريف بعد ذلك أنني كنت في جولة في شهر رمضان على بعض الهجر من بينها تلك الهجرة ووصلناها مع حلول وقت الإفطار فعلم ممثل الهجرة بوجودنا وأصر علينا أن نفطر معه في منزله فوافقنا على ذلك وفي تلك الأثناء كان هناك شخص آسيوي لم يتناول معنا الإفطار إذ انهمك في خدمتنا وقدم لنا التمر والماء وصب لنا القهوة، سألت المضيف عن الطبيب الذي انتدبته للعمل في المركز الصحي بالهجرة وقلت له: أين هو ؟ فقال: إنه هذا قاصدا الآسيوي الذي ظل يخدمنا طوال وقت الإفطار وجدناه يتقاضى مرتبا عاليا فقلنا لابد من الاستفادة منه عندما ينتهي عمله في المركز.
• كيف رأيت الفترة التي قضيتها في وزارة الصحة؟
• وقعت قبل مغادرتي للوزارة مشاريع إنشاء 120 مستشفى، أنا توليت الوزارة عام 1424هـ بعد وزيرين كبيرين هما الشيخ فيصل الحجيلان والدكتور أسامه شبكشي.
أتذكر في فترتهما كانت الأوضاع صعبة للغاية في المنطقة بعد حرب الخليج فكانت أسعار النفط منخفضة، لم يكن الحجيلان وشبكشي مقصرين لكن الوضع المالي للمملكة كان صعبا للغاية فتوقفت التنمية فترة ليست بالقصيرة، عندما توليت الوزارة كان مستشفى الإيمان هو آخر المنشآت التي بنيت في الرياض قبل 25 عاما ومستشفى الملك عبدالعزيز هو آخر المنشآت التي بنيت في جدة قبل 20 عاما ولم يعقبهما تشييد أي مستشفى في ظل نمو سكاني متزايد وصل في الرياض وحدها إلى 4 ملايين في ذلك الوقت وكانت البنية التحتية تحتاج لعمل جاد ومضن، وبفضل الله عز وجل بدأ الخير يهل على المملكة وارتفعت أسعار البترول وتحسن الاقتصاد فكان أمامنا مهمة تعويض مافات للتطوير على مستوى المملكة فعملنا على خطين متوازيين: بناء مراكز صحية في المناطق وتعويض نقص المستشفيات. فالرياض على سبيل المثال كانت بحاجة لأربعة مستشفيات فبدأنا ببناء مستشفى الإمام عبدالرحمن الفيصل جنوب الرياض ومستشفى شرق الرياض الذي انتهى إنشاؤه وتمت تسميته مؤخرا بمستشفى الأمير محمد بن عبدالعزيز ولهذا المستشفى قصة حيث كانت الأرض المخصصة له على طريق رماح فكان من الصعب على المواطنين تحمل مشقة الذهاب إليه، علمت حينها أن لدى وزارة التربية والتعليم أرض شرق الرياض على طريق الإمام أحمد بن حنبل فتوجهت للوزير الدكتور عبدالله العبيد وطلبت منه تخصيص جزء من الأرض للوزارة لتقيم عليها المستشفى مقابل أن تعوضها من الأرض الواقعة على طريق رماح وبالفعل وافق الوزير العبيد ولا أنسى له ذلك الموقف الذي مكننا من استكمال بناء المستشفى الذي يتسع لـ500 سرير ويخدم المواطنين.
وفي مستشفى شمال الرياض لم نجد أرضا لنقيم عليها المشروع، فتوجهت للأمير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز الذي وافق على منحنا أرضا موقعها استراتيجي تقع بين الدرعية والعمارية وشمال العاصمة تبلغ مساحتها 100 ألف متر مربع.
• ما قصة تشغيل مدينة الملك فهد الطبية؟
• لا أنسى ذلك اليوم، كان يوم الأحد عندما أديت القسم أمام الملك فهد بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وبعد انتهاء القسم كان ولي العهد آنذاك الأمير عبدالله بن عبدالعزيز موجودا وطلبت مقابلته في ذلك اليوم، فقلت له ياسمو الأمير: الدولة تستأجر مبنى مستشفى السليمانية للأطفال بـ 15 مليون ريال سنويا وهو غير صالح للبقاء فيه حسب تقرير الدفاع المدني إضافة إلى أن الدولة أيضا تدفع 50 مليون ريال سنويا على صيانة المدينة الطبية دون أن تستفيد منها ،عليه أقترح تشغيل المدينة ونقل مستشفى الأطفال لها حتى لاتخسر الدولة مزيدا من الملايين، رد علي ولي العهد حينها قائلا: يا دكتور، لامانع من تشغيلها ولكن لدينا معلومات بأن الأجهزة الطبية الموجودة في المدينة لم تعد صالحة للاستعمال، فقلت له ياطويل العمر: نعم هناك أجهزة أحدث ولكن أجهزة المدينة لم تستعمل ، فقال لي تأكد لي من وضع المدينة وارفع لي تقريرا عنها.
أعقب ذلك أن طلبت من الزملاء العمل على إعداد التقرير وخلال 24 ساعة رفعناه للمقام السامي، وفي صباح يوم السبت جاءنا الرد بالموافقة واجتمعت بقياديي الوزارة وأبلغتهم بالنبأ السار وكان له وقع المفاجأة عليهم بعد الانتظار الطويل لتشغيل هذا الصرح الطبي الذي يضم اليوم أربعة مستشفيات وخلال شهر من الموافقة نقلنا مستشفى الأطفال من السليمانية إلى المدينة وتوالت بعد ذلك مرحلة التشغيل التي اكتملت في حفل تاريخي عام 1425هـ.
الخطوة الثانية تمثلت في تشغيل المستشفى التخصصي في المنطقة الشرقية حيث كانت الوزارة قد اشترت في عهد الدكتور غازي القصيبي رحمه الله فندقا بغية تحويله لمستشفى لكنه بقي لفترة طويلة دون استغلال وفي ظل حاجة الأهالي لتخصصات النساء والولادة والقلب والأورام ومختلف التخصصات الأخرى بدأ التفاوض لاعتماد تشغيله مع وزارة المالية التي قالت بداية أن الوزارة انتهت للتو من تشغيل المدينة الطبية بالرياض ولايمكن صرف المزيد من الأموال حتى لايكون هناك أعباء إضافية وبعد محاولات حثيثة تمكنت الوزارة من الحصول على مخصص يبلغ 100 مليون ريال لتشغيل المستشفى الذي عانى بداية من سوء التكييف لكنه تجاوز المعضلة ونهض لخدمة السكان في شرق المملكة حتى إن مرضى الأورام لم يضطروا بعد ذلك للمغادرة للعلاج في الرياض لتوفر البيئة الصحية المناسبة فيه وفق مواصفات متطورة.
لقد تم بذل عدد من الجهود للارتقاء بالعمل الصحي ولا أجير المنجزات لشخصي المتواضع بل لله عز وجل أولا ثم لدعم ولاة الأمر، لا أتذكر يوما تحدثت فيه للملك عبدالله بن عبدالعزيز ـ حفظه الله ـ عن معاناة وحاجة بعض المناطق للخدمات إلا وساعدنا على حلها وكان يوجهنا في جلسات مجلس الوزراء لإنهاء معاناة الناس وتفقد أحوالهم خصوصا من ناحية توفير الأسرة وعلاج المرضى سواء داخل المملكة أو خارجها، في هذا الصدد لايمكن أن أنسى موافقته حفظه الله على مشروع الحزام الصحي وإنشاء المستشفيات التخصصية ومشروع الضمان الصحي التعاوني، ولايمكن لي أن أنسى رجالا ونساء في وزارة الصحة اشتغلوا بجد وإخلاص وكانوا مساندين في هذا العمل الإنساني النبيل.
• ما الموقف الذي لاتنساه واتخذت بناء عليه قرارا ؟
• هناك الكثير من المواقف، لكن الموقف الخالد في ذهني هو أنني كنت في جولة مفاجئة لأحد المستشفيات في المنطقة الجنوبية وتحديدا في خميس مشيط وكانت الساعة تشير إلى الثانية فجرا، عند دخولي للمستشفى سمعت صراخا مدويا لطفل يتألم اتجهت إليه مباشرة واستفسرت من الطبيب عن حالته فقال إنه يعاني من الأنيميا المنجلية التي أصابته بآلام حادة ورعشة في العظام ولم يكن للطفل ذنب في ذلك إذ أنه كان ضحية مرض والديه بأحد أمراض الدم الوراثية.
عدت بعد ذلك للرياض واسترجعت سجلات أمراض الدم الوراثية فإذا هي تتزايد في المملكة وخصوصا في المنطقتين الشرقية والجنوبية فاتصلت مباشرة بوزير العدل آنذاك الشيخ عبدالله آل الشيخ وطلبت منه تحديد موعد للقاء وفعلا تم ذلك والتقيته في شهر شوال يوم الأحد برفقة أركان الوزارة وشرحت له الأمر وقلت له: أنت وزير العدل والأنكحة تتبع لوزارتك، نريد تشريع نظام بحيث لا يتم أي زواج إلا بعد فحص أمراض الدم الوراثية على الزوج والزوجة وهذا يحتاج دون شك لاستصدار قرار من مجلس الوزراء وغدا الجلسة، نريد أن نستغل الفرصة للحديث لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي كان حينذاك وليا للعهد فوافق آل الشيخ، وفعلا التقينا بالملك حفظه الله قبل الجلسة وعرضنا عليه الموضوع وشرحنا له أبعاده كافة ومخاطره الصحية والمعنوية على الأجيال المقبلة، فقال حفظه الله ماهو المطلوب؟ فقلنا نحتاج لصدور قرار بألا يتم أي زواج قبل فحص أمراض الدم الوراثية للزوجين، ومباشرة نادى حفظه الله أمين عام مجلس الوزراء السابق عبدالعزيز السالم وأبلغه بإعداد القرار وخلال شهرين فقط أصبح نافذا بعد تحضير الأجهزة اللازمة والقوى العاملة في فترة قياسية ولم يكن بالإمكان منذ الأول من محرم من العام 1425هـ إتمام أي زواج قبل الفحص الإلزامي، في المرحلة الأولى كان مانسبته 10 % يتمون عقد زواجهم رغم إبلاغ الوزارة لهم بخطورة ذلك على أبنائهم وكان القرار اختياريا لهم، ولكن مع تواصل الحملات التوعوية تغير الوضع فاستجابوا لنصائح الأطباء ولم تعد خطوة الزواج تمضي في ظل التحذيرات إلا في حالات نادرة جدا، ولم نكتف بذلك بل أعقب ذلك واعتبارا من الأول من محرم من العام 1429هـ إلزام المتقدمين للزواج بالخضوع لفحص الإيدز والتهاب الكبد الوبائي.