-A +A
محمد السنان *
إن الكون بكل ما يحتويه مـن مجـرات، ونجـوم وكـواكب ومخلـوقات حيـة قائم عـلى قـانون الصـراع والتـوازن مـن أجـل بقـاء الأصلح. والأصلح ليس بمعـناه النوعـي بل بمعنى القـوة والقـدرة عـلى التكيف مع كل المتغـيرات. فمثلا، إن كوكبنـا هـذا الذي نعيش فيـه (الأرض) يشـهد صـراعـات فـي كل نواحـي الحيــاة، فهنـاك صـراعات سـياسـية، وصـراعات طـبقية، وصـراعات ثقافـية، وصـراعـات اقتصـادية، وصـراعـات إيديولوجـية، وصـراعـات دينيـة وطائفـية وصـراعـات عسـكرية، حـتى عـلى المسـتوى الأسـري هنـاك صـراعـات بـين الإخـوة لـدوافع ما. واخـيرا وليس آخـرا هنــاك صـراع الأجيــال. وصـراع الأجيــال عـادة ما يكـون شـاملا لكل أنماط الحياه، الدينية والثقافيـة والاجتماعيـة، إلخ.
وبما أن موضـوعنا ليس عـن الحرب، وليس عـن الاقتصاد أو الـدين وإنما عـن الموسـيقى والغـناء، فإننـا سـنسلط الضـوء عـلى هـذا الجانب من الصـراع، والـذي يمثل جانبـا مـن صـراع الأجيـال، وهـو الصـراع التقلـيدي والأزلي بين القـديم والجـديد والـذي تفـرضـه حـركـة التغـيير والتطـور التاريخـي. والحـال اليـوم كما هـو الحـال بالأمس، يوجـد صـراع محـتدم بـين تيـارين، أحـدهما، وهـو التيـار التجـديدي، يرى أن الموجـود وما يطـرح عـلى السـاحـة في الوقت الحاضـر من ألوان الموسـيقى والغــناء هـو ما يتطلبـه تطـور العـصر وهـو انتقـال طبيعـي وحـتمي لمرحلـة يجب أن تفـرض وجـودها، وأنه لا بأس من أن تتخـذ الأغـنية العـربية مسـارا مختلفـا عـن المسـار الموروث.. وأن الأغـنية يجـب أن لا تقف عـند نقطـة معـينة، وأن لا ترتبط بالإرث المـوسـيقي وقـوالبـه ومقـاماتـه، حـتى وإن اسـتدعى ذلك الانسـلاخ الكلي مـن الماضي بكل مافيـه مـن قيم فنيـة وأدبيـة وثقـافيـة ... بل هنـاك من يطالب بتخـلي الموسـيقى العـربيـة عـن الربـع تـون لكـي تتقبلهـا وتسـتسـيغها الإذن الغـربيـة. في حـين يرى التيـار المحافظ أن القيمـة الفنيـة في الأغـنية العـربيـة هـي بالـتزامها بقـوالب وقـواعــد وأصـول ومقـامات الموسـيقى الشـرقيـة، وعـدم المسـاس بها أو تطـويرها أو تحـديثها، فهم يرفضون كل ما هـو حـديث حـتى أنهم يرفضـون الاسـتعانـة بالتكنـولوجيـا الرقـميـة في أي عمـل موسـيقي مع أن هـذه التكنـولوجيـا أصبحت اليوم من أسـاسـيات التوزيع الموسـيقي للأغنيـة العـربية.

والحقيقـة أن كلا من الفـريقـين لا يملك الحجـة المنطقـيـة الـتي تؤهلـه لبنـاء مـوقفـه، وذلك ربما يعـود إلى تواضع المسـتوى الثقـافي لكلا الفـريقـين فيما يتعـلق بالموسـيقى كعلم مـن العـلوم الإنسـانيـة. فالمحافظـون يرون فـي اللـون الغنـائي القديم الجمل اللـنية الجمـيلة والتنـوع المقـامي والإيقـاعي في الموسـيقى، ورقـي في الكلمـات وجمـالا فـي الأصـوات المهـذبة تهـذيبـا رائعـا، والأداء المتقـن والبارع للأغـنية، فهـذا الفـريق قـد تربت آذانهم عـلى هـذا اللـون الجميـل مـن فـن الغنــاء والألحـان المعــبرة الـتي تعـطي لكل جملـة ولكل كلمـة بل ولكل حـرف أحيـانا حقـه مـن اللحـن النغـمي، مما يجعـل الأغـنية متكاملـة الأركان مـن حيث الكلمة واللحـن والأداء. لـذا، فهـذا اللـون مـن الغـناء إنما اختلط بأحاسـيس ومشـاعـر ذلك الجـيل وشـكل لـديـه ــ عـبر سـنوات طويلـة ــ ذائقـة فنيـة مرهفـة أصـبحت جـزءا من حيـاتـه وجـزءا مـن تكـوين شـخصـيته وثقـافتـه. لـذلك، فهـو يحـرص عـلى ابقائها ما بقـي، ونبـذ كل ما مـن شـأنه المسـاس بها. فكلمـة «تطوير» الأغـنية أصبحت تعـني لـديه تشـويه لذلك الفـن الجميـل مـن قبـل جيل لا يعـرف مـن المـوسـيقى سـوى الإيقـاعـات الصاخـبة والسـريعـة الـتي تخاطـب كعـوب أقـدامهم وتهـز أكتـافهم.. وأن ما أطلـق علـيـه تجـاوزا بـ«الأغـنيـة الشـبابيـة» ما هـو فـي حقـيقـة الأمـر إلا أعمال لا تسـد رمـق سـامعها ونهمـه الوجـداني، فالسـمة الغـالبـة للأغـنية الشـبابيـة هـي الإيقـاع السـريع الراقص وكلماتها الجـوفـاء الركيـكة المليئة بالإسـفاف والقبح، وتلتحـف بكسـاء مبهـر ولكـن لا كائن حي بداخلـه (على رأي الدكتـور لطـفي المرايحـي). وهــذه نظـرة وإن كانت قـريبـة جـدا من الحقيقـة والواقـع، إلا أنها لا تخـلو من التجـني عـلى الجـديد، ذلك لأنها لا تقـوم عـلى أساس تقـييم وتحلـيل عـلمي وموضـوعـي لأنها تفتقـر لأهـم أدوات النقـد البنـاء، وبالتـالي فهي نتاج تعصـب أعمى لكل ما هـو قـديم بشـكل مطلـق ورفض لكل ما هـو جـديد بشكل مطلـق أيضـا، دون محـاولـة إخضـاعـه للنقـد الموضـوعـي والتحليـل الفـني الـذي لا يمكـن لأحـد غـير أولئك الـذين يمتلكـون الثقـافـة الموسـيقيـة الـتي تؤهلهم لإصـدار أحكامهم عـلى الجـديد مـن حيث الجـوده أو الرداءة الفنيـة خارج إطـار الـتذوق أو المـزاجيـة.
كما أن الفـريق الآخـر تحكـم تصـرفاته التمرد عـلى كل ما هـو قـديم بشكل مطلـق ورفضـه جملـة وتفصيلا تحـت مسـمى التطـور واعـتباره فـنا مسـتهلكا يجـب أن يقـذف به إلى مـزبلـة التـاريخ. ولكي لا يكـون حكمـنا متجنيـا وظالمـا، فيجـب أن نعـترف بأن ليس كل الأجيـال الجـديدة تتبـنى هـذا الموقـف من الفـن الرومانسي الجمـيل، وخصـوصا في عصـره الـذهـبي الممتـد مـن منتصف العقـد الثالث وحـتى بـدايـة العقـد الثامن من القـرن الماضي الميلادي. فهنـاك الكـثير منهم من لا يزال يتـذوق أغـاني محــمد عــبد الوهـاب وأم كلثـوم وعــبد الحلـيم حـافظ وفـريد الأطرش ونجـاة الصغــيرة وليلى مـراد وكارم محمـود ومحمـد قـنــديل وغـيرهم، ويعـتبرونها قمـة فـي الرقـي، وأنها أسست لفـن غــنائي وموسـيقي جمـيل يجـب عـدم التفـريط فـيه.
ولكي لا أدخـل القارئ في أي التباس فيما يتعلق بمراحـل تطـور الأغـنية الـعـربيـة، فقـد رأيت أن أقسـمها إلى ثلاث مراحـل تاريخيـة، سـوف أطلق على الفـترة من نهايـة القـرن التاسـع عشـر حـتى منتصف العقـد الثالث مـن القـرن العشـرين (العصـر الكلاسـيكي) وبعـده يبـدأ (العصـر الومانتيكي) أو (الرومانسي) للموسـيقى والأغـنية العـربية، والـذي ينتهـي بنهايـة العقـد السـابع من القـرن العشـرين. ثم يبـدأ (عصـر الانحطاط) برغـم أن هـذا العصـر شـهد تطـورا نوعـيا فيما يتعـلق بالتوزيع الموسـيقي الهارموني والبوليفـوني.
فهـذا الصـراع لم يكـن ولـيد اليـوم، بل أن جـذوره تمتـد إلى عـام 1932م عـند الإعـداد لإنعقـاد المـؤتمر الأول للمـوسـيقى العـربيـة في القاهـرة، حـيث نشـب الخلاف بـين المجـددين ودعـاة المحافظـة عـلى اللـون الكلاسـيكي وأدى إلى نشـوء أزمـة تنـاولتها الصحـف وصـدرتها صفحاتها الأولى وبالأخص جـريدة «الصـباح» القـاهـرية، الـتي قامت بتغطيـة فعـاليـات المؤتمـر. وقـد ركـز المـؤتمـر وسـلط الضـوء عـلى أدوار محمـد عثمـان وأعمـال داوود حـسني و درويش الحـريري وعـزيز عـثمان و محمـد البحـر و محمــد القـبنجي وغـيرهم مـن رمـوز الأغـنية الكلاسيكيـة. وقـد تم تسجـيل الأعمـال الـتي أقـرها المؤتمـر والـتي كانت ترتكـز عـلى القـوالب الغـنائية الـتركـية والفارسـية، مثل السماعـي، والبشـرف واللـونجا، ألخ... فـي حـين تم تجاهـل أعمـال محمـد عـبـد الوهـاب ومحمـد القصـبجي، باعـتبارها أعمـل عـبثـية تهـدف إلى تغـريب الأغـنية العـربية تحـت سـتار التجـديد.
حـتى أن معظم أعمـال سـيد درويش قـد تم تجاهلهـا من قبـل المؤتمـر باعتبـارها قـد خـرجت عـن النمـط الكلاسـيكي. لقـد كانت الهيمنـة واضحـة وجليـة للجناح المحافظ عـلى المؤتمر الـذي رفض إدماج الآلات الموسـيقية الغـربيـة فـي التخت الشـرقي بحجـة المحافظـة عـلى الأصـالـة ولكـي لا يتم تغـريب الموسـيقى العـربيـة. وقـد أحس محمــد عــبد الوهـاب بأن صـراعـه مع القائمـين عـلى المؤتمـر سـوف يكـون خاسـرا، فقـد اكـتفى بتوجـيه خطـاب للمـؤتمر ضمـنه موقفـه بهـذا الخصـوص ثم غـادر القاهـرة متوجهـا إلى العـراق بحجـة أنه تلقـى دعـوة للغــناء فـي قصـر الملك فيصـل الأول.
ولم يسـتطع محمـد عـبـد الوهـاب اقتحـام مملكـة الغـناء السـائدة فـي ذلك الوقت بمشـروعـه التجـديدي إلا مـن خـلال الأفـلام السـينمائيـة، وكـذلك فعـلت أم كلثـوم. ولو لم يلجـأ عـبد الوهـاب إلى السـينما لما اسـتطاع أن يخـترق ذلك الجـدار الحـديدي ولما وجد لـه مكانـا بين الأصـوات الـتي كانت تتسـيد السـاحـة الغـنائيـة، مثـل أدوار محمـد عثمـان، وعـبده الحامـولي، وداوود حسـني، وزكـي مـراد، ويوسـف المنيلاوي، وصـالح عـبد الحـي
وســلامـة حجــازي. ولما اسـتطاع أن يلـج بأعمـالـه إلى مسـامع النـاس ومن ثم يتربع عـلى عـرش الغـنــاء ويبـدأ مسـيرته التجـديدية ومن ثم يتبعـه أسـتاذه محمـد القصـبجي الـذي عـارضه فـي البـدايـه لكنـه سـرعـان ما اقـتنع بمشـروع عـبد الوهـاب وبـدأ فـي تنفيـذه بشكل مبهـر ظهـر فـي بعض أعمـاله لأم كلثـوم بـدءا مـن أغـنيـة (غـلبت أصالح)، الـتي كانت تعـتبر طفـرة نوعـية فـي أسـلوب محمـد القصـبجي التلحينيـة، ثم اتبعهـا بروائعـه الخالـدة لأسـمهان وليـلى مـراد. لقـد حسـم محمــد عــبد الوهـاب هـذا الصـراع مـنذ منتصف العقـد الثالث مـن القـرن الماضي، عـندما تبـنى حـركـة التجـديد وفـرضها عـلى أرض الواقـع مما دفـع بكل الموسـيقيين والملحـنين المجايلين لعــبد الوهـاب إلـى الحـذو حـذوه وإن كان عـلى اسـتحياء مـن بعضهم مثل رياض السـنباطي الـذي أضطـر بعـد مضي أكـثر مـن ثلاثـة عـقود إلى إدخـال آلـة غـربيـة لأول مـره في أعمـاله الـتي لحنها لأم كلثـوم وهـي آلـة الأورغ الـتي اسـتهل بها مقـدمته الموسـيقيه لأغـنية «أقـبل الليل»، وذلك في عـام 1970م إذا، فالصـراع بين القـديم والجـديد قضـية مسـتمرة ولن يقـف أبـدا فهـو حتميـه يفرضهـا التطـور التاريخـي. فالموسـيقى هـي أحـدى نواحي هـذه الحيــاة وبالتالي يجب أن تصارع مـن أجـل البقــاء. لـذلك، يجـب أن تتطـور الأغـنيـة العـربيـة وأن تتخلص مـن أجـزاء كـبيرة مـن مسـميات مقاماتها المعـقدة، ولا أعـني المقامات نفسـها، بل التخلص مـن الإرث الـفارسي والـتركي وأن تفـرض هـويتها العـربيـة وأن تسـاير المـتغـيرات التاريخــية وأن تنفـتح عـلى العـالم مـن خـلال غـربلتها وإعـادة تقـييم قـوالبها، ومقـاماتهـا، وتسـهيلها بحـيث يمكـن لراغب دراسـة الموسـيقى مـن اسـتيعابهـا، وأن يفسـح المجـال للآلات الغـربيـة بأن تدخـل ضمـن التخـت الشـرقي مثـل البيـانو وآلات النفـخ وغـيرها وأن تسـتفيـد مـن التقنيــات للارتقـاء بهـا من حـيث التوزيـع الهـرموني والبوليفـوني الـذي لازالت الموسـيقى العـربيـة تفتقـر إليـه، وذلك دون المسـاس بالقـيمة للعـمل الموسـيقي ودون تجـريـده مـن هـويتـه الشـرقـية. كما يجـب أن تتـولـى الحكـومـات العـربيـة إنشـاء قاعـات للمـوســيقى مثـل دور الأوبرا للمسـاعـدة فـي نشـر التـذوق المـوسـيقي وإنقـاذ الأجيــال من التلـوث الموسـيقي الـذي يهيمـن عـلى أسـماعهم ويشكل انحـراف ذائقتـهم الفــــــنية
ملحـن ومؤلف موسـيقي
alsenan_composer@hotmail.com