-A +A
د. طلال صالح بنان
يعيش الفلسطينيون، هذه الأيام، أزمة مستعصية بينهم، ارتدوا إلى بعضهم بعضا، ونسوا أنه تجمعهم قضية.. و أن في مواجهتهم عدوا مشتركا. ما يحصل بين الفلسطينيين من شقاق سياسي، نَفّسَ عن نفسه ـ أحياناً ـ بعنف محدود، لا يعدو كونه صراعا “كلاسيكيا” على السلطة، رغم تواضعها ومحدوديتها، بسبب الاحتلال. في الساحة الفلسطينية، هناك صراع مؤسسات، في خلفيته، صراع فصائل، تدفع كل منها “أيدلوجيات” سياسية متطرفة وغير متسامحة، مهما جادل هذا الفريق أو ذاك، بمرجعية الديموقراطية. المشكلة التي يعيشها الفلسطينيون، هذه الأيام، ليست فلسطينية، خالصة. هي بمثابة نواة “ منصهرة” لصراع يتقد تحت الرماد، على مستوى إقليمي أوسع، تدخل فيه عناصر من داخل المنطقة، وخارجها. هذا الصراع، تغلفه “قشرة” هشة أقل سخونة، بين الفلسطينيين، تحول دون تحوّله إلى “بركان” تتساقط حممه، على المنطقة، بأسرها... إلى حين. إذا زادت درجة “سخونة” النواة المنصهرة على الساحة الفلسطينية وتجاوزت ما يحيط بها من قشرة هشة لبقايا العقلانية بين الفلسطينيين.. وبقايا من حس عربي بخطورة المشكلة على أمنهم القومي، فإن صمود هذه القشرة لن يطول، فينفجر البركان وتتناثر حممه.
من الخطأ النظر إلى الصراع السياسي المحتدم بين الفلسطينيين واحتمالات خروجه عن السيطرة، على أنه مشكلة فلسطينية، توفر فرصة لإسرائيل، و إلى حدّ العرب والعالم، للخلاص من “الصداع” المزمن الذي تسببه المسألة الفلسطينية، ترك الأمور للفلسطينيين وحدهم، لإدارة الصراع على السلطة بينهم، ليس حلاً... لأن المشكلة لها ذيول وخلفيات خارجية، وتركها تحت رحمة “الجنون” السياسي، الذي يحث الخطى الفلسطينيون المسير تجاهه.
المشكلة، على السطح قد تبدو فلسطينية خالصة، ولكنها، في حقيقة الأمر، ليست كذلك. ليس بسبب الاحتلال وحده، ولكن بسبب تعقيدات الوضع الإقليمي والدولي، بصورة عامة، الذي فشل طوال ستة عقود من التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، حتى أطل الحل الفلسطيني برأسه، ربما لمحاسبة الجميع، بما فيهم الفلسطيني، على هذا العجز في إيجاد حل لقضية، كانت و مازالت تؤرق ضمير الإنسانية بقسوة تتجاوز القسوة التي سببتها مرارة ستة حروب إقليمية في المنطقة، لم يستطع أيٌ من طرفيها أن يحسمها... لتبقى الأزمة (القضية ) تحز في ضمير الجميع،
ولكن الأزمة، قبل كل ذلك تظل فلسطينية، في مستوى تفاعلها الضيق، في داخل “النواة” المنصهرة لبركانٍ أوشك على الانفجار.. وتعكس، صراعاً “كلاسيكياً” على السلطة.

الديموقراطية في ظل الاحتلال
الديموقراطية، ثقافة وممارسة، جديدة على الفلسطينيين. الفلسطينيون، طوال تاريخ إدارتهم العنيفة للأزمة مع إسرائيل، شهدت فترة الكفاح الفلسطيني المسلح، تعددية سياسية وأيدلوجية للفصائل الفلسطينية، سمحت بنجاحات بقدر ما تسببت في إخفاقات في إدارة الصراع العنيف مع إسرائيل، ولكن، هذه الممارسة غير المؤسساتية العنيفة، بين الفلسطينيين، كانت وراء بروز منظمة التحرير الفلسطينية، كأكبر قوة سياسية وعسكرية لحركة التحرر الفلسطيني، التي قادها ياسر عرفات، لأكثر من ثلاثة عقود ونصف.
ولكن، الحكم على “عراقة” الديموقراطية الفلسطينية، كان يحتاج إلى بيئة سياسية، مستقرة، للتعامل مع القضية، في مرحلتها السياسية الجديدة. بعبارة أخرى: الاختبار الحقيقي لمتانة التقاليد الديموقراطية الفلسطينية، يجب أن يظهر في ظل التعامل السياسي، بعيداً عن خيار المقاومة، مع القضية الفلسطينية، في داخل المجتمع الفلسطيني، الذي ما تزال قضية الاحتلال هي قضيته الأولى. ليس بكافٍ للفلسطينيين ممارسة “ترف” الديموقراطية، دون وجود قبس من نور في نهاية نفق الاحتلال. الديموقراطية، على أي حال هي وسيلة وليست غاية، في حد ذاتها. وكانت قضية الاحتلال ومقاومته، هي القضية الرئيسية في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، في يناير الماضي، حيث اكتسحت حركة حماس مقاعد المجلس التشريعي،


ديـمـوقـراطـيـة الـمـقـاومـة وديموقراطية السلطة
فرق كبير بين ممارسة الديموقراطية، في ظل سيادة خيار المقاومة عنه في ظل التعامل مع واقع الاحتلال سياسياً. نجحت الديموقراطية الفلسطينية، في وقت سيادة عقيدة الكفاح المسلح، ولكننا نراها تفشل في ظل تقبل واقع الاحتلال، حتى ولو كان الهدف، في النهاية، زوال الاحتلال.
منظمة التحرير الفلسطينية حذفت من قاموس تعاملها مع إسرائيل كل ما يشير إلى احتمالات التعامل مع الاحتلال خارج نطاق التعاطي السياسي معه. في ظل توازن خطير في ميزان القوى بين منظمة التحرير وإسرائيل، كان يصعب تجاهل استفادة إسرائيل منه، على حساب توقع الفلسطينيين لشكل الحل النهائي للأزمة. وظهر جلياً، في ما بعد أن إسرائيل تريد كل شيء، بعد أن التزم الفلسطينيون بإدارة الأزمة سياسياً. بالإضافة إلى أن زعامات منظمة التحرير أبدوا قصوراً في العمل السياسي (المدني) داخل السلطة، غير ذلك الذي أنجزوه في فترة الكفاح المسلح.

اخـتـبـار فـاشـل لـلـخـيـار الديموقراطي
رجع صوت المقاومة يُسمع صداه من جديد ويتردد بنفس الخطاب السياسي والحماسي، الذي كان سائداً بين الفلسطينيين، قبل اتفاقات أوسلو وقبل تجربة السلطة الفلسطينية. هذا الخطاب السياسي الجديد، لقي صدىً عند الجمهور الفلسطيني، الذي خاض تجربة السلطة لما يقرب من عشر سنوات، ولم تُحل القضية.. ولم يرحل الاحتلال، حتى وصل الكثيرون إلى قناعة، أن تجربة السلطة الفلسطينية، وفرت لإسرائيل ضالتها، في تخفيض تكلفة احتلالها للأراضي الفلسطينية، إلى أدنى مستوى ممكن، في الوقت الذي تجري فيه مشاريع الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية على قدمٍ وساق..!؟
تضافرت كل تلك العوامل ليعلو خطاب المقاومة من جديد... وكان أن خاضت حماس الانتخابات البلدية واكتسحتها، ولم تسمع منظمة التحرير لجرس الإنذار الذي قرعته الانتخابات البلدية، ليصم آذانها دوي اكتساح حركة “حماس” للانتخابات التشريعية، في يناير الماضي، بأغلبية مريحة مكنتها من تشكيل أول حكومة فلسطينية، تخرج منها منظمة التحرير، ليبدأ صراع مؤسساتي بين منظمة التحرير وحركة حماس: الأولى تسيطر على مؤسسة الرئاسة.. والثانية تسيطر على الحكومة. وكان لابد من مواجهة سياسية بين الاثنين، مع احتمال تطورها إلى مجابهة عسكرية، قد تأتي على المسألة الفلسطينية ( فلسطينياً ) مرة واحدة وإلى الأبد.

سقوط الديموقراطية بالديموقراطية..!؟
كل تلك الضغوط، لم تفلح في إسقاط حماس عن الحكم. يوماً بعد يوم تؤكد حماس على التزامها ببرنامجها الانتخابي الذي أتى بها للحكم.. وتصر على أن تبقى في السلطة، المدة التي حددت لذلك في الدستور. حماس من البداية تصورت ردة الفعل الإسرائيلي والعربي والدولي تجاهها، وحاولت أن تتفادها بصيغة حكومة الوحدة الوطنية. في البداية رفضت الاقتراح منظمة التحرير، ولكنها في النهاية قبلت به... ولكن ، لا إسرائيلياً ولا أمريكياً ولا أوروبياً، يُرغب في استمرار حماس في الحكومة، كلٌ له أسبابه ودوافعه الخاصة... وكان الحل بأن تلتف آليات الديموقراطية، على قيمها وسلوكها، لتحقيق غايات سياسية ( فلسطينية وإسرائيلية وأمريكية وأوروبية )...!؟

انقلاب دستوري..!؟
نظرياً الرئيس الفلسطيني تتبع له الحكومة. بل إن الرئيس الفلسطيني يمتلك صلاحيات الرئاسة، في النظام الرئاسي، بوصف الرئيس الفلسطيني منتخبا، هو الآخر من الشعب، وليس كما في نموذج النظام البرلماني، منصب رئيس الدولة، في الغالب منصب شرفي بروتوكولي وليس سياسيا.
ولكن، الرئيس الفلسطيني، لا يستطيع تشكيل حكومة جديدة، بعيداً عن المجلس التشريعي القائم، الذي تتمتع فيه حماس بأغلبية مطلقة. بدايةً لا يستطيع الرئيس محمود عباس، أن يحل حكومة إسماعيل هنية “الحماسية” دون طلب الحكومة، نفسها، حل نفسها.. ومن ثَمّ الدعوة الى انتخابات تشريعية مبكرة. دستورياً: إذن الرئيس الفلسطيني، لا يستطيع أن يقدم على حل الحكومة، دون المجازفة بخرق الدستور.. وأكثر من ذلك المجازفة باندلاع أعمال عنف، تقترب من حالة الحرب اهلية.
السيناريو المطروح، هو أن يقدم رئيس السلطة الفلسطينية، على انقلاب دستوري، يحل الحكومة.. ويوقف العمل بالدستور.. ويشكل حكومة مؤقتة.. ويدعو إلى انتخابات تشريعية مبكرة.. وفي هذه الفترة، يستخدم حالة الطوارئ لإصدار قوانين لتغيير النظام الانتخابي حتى يحول دون حماس والعودة إلى الحكم... بل وتقليص تواجدها على المستوى البلدي..!؟
ولكن مدى نجاح مثل هذا السيناريو، ضئيل... إن لم نقل إنه: مميت، بالنسبة للفلسطينيين وقضيتهم.

شبح الحرب الأهلية..!؟
نجاح مثل هذا الانقلاب الدستوري يمكن تصوره في الدول، حيث يمتلك الجيش مرونة كبيرة في التدخل في الحياة السياسية، بصورة حاسمة وقاطعة، متى توفرت الأجواء لمثل هذه الانقلابات، خاصة في الدول الأقل عراقة في التقاليد الديموقراطية. ولكن في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تتكامل القوة السياسية للفصائل الفلسطينية مع القوة العسكرية، في توازن دقيق وحساس لميزان القوى بينها، يُعتبر اللعب بالدستور، مسألة خطيرة، تشبه اللعب بالنار.
حماس، ليست حزباً سياسياً، في دولة تحكمها مؤسسات دستورية فاعلة وكفؤة.. حماس، كما هي منظمة التحرير الفلسطينية، بفصائلها المختلفة، حركة عسكرية، في الأساس، تحمل أيدلوجية تسمح لاحتمالات العنف بأن تتصاعد، كأحد خيارات ممارسة العملية السياسية. حماس أيضاً، من الناحية السياسية والتنظيمية والعسكرية، أكثر تجانساً وتماسكا وانضباطاًً، من منظمة التحرير الفلسطينية، بفصائلها المتعددة، خاصة بعد أن تركت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية العمل العسكري، و”تلوثت” تنظيمياً وعقائدياً، من خلال انغماسها في العمل السياسي، بكل سلبياته على “نقاء” حركة النضال والكفاح المسلح.
المشكلة هنا: احتمال ركون الرئيس الفلسطيني إلى دعم خارجي يأتيه، إذا ما قرر خوض غمار معركة سياسية وعسكرية مع حماس. وزيرة الخارجية الأمريكية، في زيارتها الأخيرة للأراضي الفلسطينية، حرضت ـ بصورة علنية ـ الرئيس الفلسطيني على حكومة حماس، دون أن تقدم أية وعود لدعم الرئيس الفلسطيني، إذا ما اختار “سيناريو” قَفْل اتصالاته السياسية مع حماس، ورمي مفاتيحها في البحر..!؟ أولمرت، رئيس وزراء إسرائيل، يلمّح بقرب لقائه الرئيس عباس، ولكن يبدو أن لقاء مثل هذا لن يتم، أصلاً..!؟ فأولمرت، مثل رايس ينتظر من عباس “إجراءات” حاسمة ضد حماس... ولكن رهان أولمرت هنا ليس على حصول اللقاء، بقدر ما هو غياب الرئيس الفلسطيني، نفسه..!؟ في تقدير إسرائيل، أن أي حرب تنشب بين الفلسطينيين سوف ترفع عن إسرائيل “حرج” الاتصال بالفلسطينيين، لأن مثل هذه الحرب لو نشبت، لن تبقي أحداً من الفلسطينيين تضطر إسرائيل للتفاوض معه..!؟

أين العرب..!؟
العرب يمتلكون مساعدة الفلسطينيين على الخروج من المأزق، ولكن كيف. العرب عليهم أن ينظروا للقضية من منظور الأمن القومي العربي. جميع الاتصالات العربية، في هذا المجال، يبدو فيها التحيز لأحد طرفي الأزمة ( الفلسطينيين )، ضد الآخر، جلياً. لا يمكن للعرب أن تكون لهم دالة على طرفي الأزمة ( الفلسطينيين )، وأحدهما يركن لدعم العرب.. والآخر يتعرض لضغوطهم. على العرب أن يقتربوا أكثر من حماس.. وأن يستخدموا نفوذهم مع الرئاسة الفلسطينية، من أجل دفعها لخيارات أكثر عقلانية للتعامل مع الأزمة، بعيداً عن تحريض الأمريكيين والإسرائيليين.
أية مبادرة عربية، للجمع بين الفلسطينيين، يجب أن يشعر كلٌ من طرفي الأزمة، أن القضية ليست مسألة فلسطينية، بل هي قضية أمن قومي عربي، أولاً وأخيراً. خروج الوضع الفلسطيني عن السيطرة معناه خروج “النواة” الساخنة من غلاف قشرتها الرقيق لتتحول إلى بركان تتساقط حممه ليس في دائرة مسرحة عملياته الفلسطيني القريب، بل على المنطقة العربية بأسرها.
كذلك على العرب أن يلتزموا بتنسيق جماعي للتعامل مع الأزمة. ثم إن الأزمة، يجب ألا تترك لفعاليات عربية “هامشية” للتعامل معها، بعيداً عن تصور عربي جماعي لخطورة الأزمة على أمن العرب القومي.. الأزمة في النهاية ليست أزمة فلسطينية ـ فلسطينية.. وليست أزمة فلسطينية ـ إسرائيلية... هي قضية أمن قومي عربي، في المقام الأول، يُحدد مجال التعامل معها، بالقدر الذي يشكله أطرافها من خطر على الأمن القومي العربي. لا يمكن بأي حال أن يتساوى، في هذا الفلسطينيون والإسرائيليون.. كما لا يمكن التفريق بين الفلسطينيين، أنفسهم، مهما كان الموقف العربي، من أطراف المعادلة الفلسطينيين.

التحكم في درجة “نواة” البركان”
إذا استمر تسارع الأمور، بالطريقة التي تتسارع بها فلسطينيا، بعيداً عن تدخل عربي فاعل و إيجابي، فإن البركان سينفجر، لا محالة.. وتتطاير حممه، لتصل إلى أطراف النظام العربي البعيدة. أما إذا تدخل العرب، رغماً عن أطراف الأزمة الفلسطينيين.. ورغماً عن أطرافها الإقليمية والدولية المحرضة، فإن مقاومة غلاف النواة ( الفلسطينية ) الذي يغطي و يحتوي اتقادها الداخلي، سوف تحول دون انفجار البركان... على أن يعمل العرب، في مرحلة لاحقة على تخفيف درجة حرارة النواة، حتى لا تسبب خطراً على غلافها الخارجي فتتجدد مخاطر انفجار البركان.