-A +A
عبدالرحمن العكيمي (تبوك)
دائما يتهم المرض النفسي بأنه هو السبب الرئيسي وراء ازدياد معدلات الاكتئاب والانتحار والجنون والجريمة وهو الذي يجعل شركات الدواء العالمية تواصل إنتاجها للعقارات والأدوية النفسية ورغم هذا يلجأ الكثير من المكتئبين إلى وضع حد لحياتهم بعد بلوغهم درجة متأخرة في اليأس من العلاج ومن المجتمع فيقررون الموت انتحارا ؟!. ورغم أن نسبة الاكتئاب في العالم مرتفعة إلا أنها في المملكة في ازدياد حيث حذر مدير عام الصحة النفسية والاجتماعية في وزارة الصحة الدكتور عبد الحميد بن عبدالله الحبيب من زيادة معدل انتشار مرض الاكتئاب في بلادنا مؤكدا أن نسبة انتشاره مقاربة للمعدلات العالمية التي تصل إلى 15%، والرقم مرشح للزيادة مبينا أن مرض الاكتئاب مرشح للزيادة بسبب الخوف من نظرة المجتمع للمريض والمرض في مجتمعنا السعودي والفهم الخاطئ له بسبب خصوصية المجتمع. وثمة فرق بين المرض النفسي والمرض العقلي فالمريض النفسي يعي تصرفاته ويعتبر مسؤولا عنها ولا يلحق الأذى بنفسه ولا بالآخرين أما المريض العقلي فهو يعاني من اختلال في جهازه العصبي وفي خلايا الدماغ فإنه يفقد صلته بالمجتمع وبالناس من حوله ولا يدرك تصرفاته بل إن اللاشعور هو الذي يتصرف بالنيابة عنه ويرفض العلاج والمساعدة وهو الذي يشكل خطرا على نفسه وعلى المجتمع ويعتبر الاكتئاب مرضا نفسيا وليس مرضا عقليا لكن ثمة حالات اكتئاب إذا لم يتم علاجها وتقديم المساعدة لها فإن طريقها للموت انتحارا.


تقول إحدى الدراسات العلمية إن نسبة 90% من المنتحرين يعانون الاكتئاب الشديد، وتؤكد آخر الإحصائيات الصادرة من وزارة الداخلية أنه في العام 1429هـ تحديدا سجلت 748 حالة ثم ارتفعت الحصيلة لتصل في العام الماضي إلى 800 حالة انتحار وهي الأعلى في سجلات الانتحار في بلادنا وتعتبر الظروف الاجتماعية والضغوط الحياتية شريكة أخرى في مشهد الانتحار الذي يفتح العديد من الأسئلة على مصراعيها..
« عكاظ» تفتح هذا الملف الساخن الذي يبرز فيه الانتحار كعامل خطورة على الفرد والمجتمع
في البدء التقينا بالشاب (س. م. ع) 24 عاما يعاني منذ خمس سنوات من مرض نفسي شخصه مستشفى الصحة النفسية بتبوك بأنه حالة من حالات الانفصام ويتناول بعض الأدوية وحالته مستقرة كما يقول لكنه يقول إنه يشعر بحالة حزن مستمرة ولا يمتلك الرغبة في ممارسة أي شيء وحاول الاندماج بالمجتمع لكنه لم يستطع ويفضل العزلة باستمرار ويقول إنه سمع عن حالات انتحار بل إن أحد أقربائه مات منتحرا.
أما الشاب (ن. ك.) 31 عاما فيقول إن حياته كانت طبيعية وسوية مثل أي شاب لكن فشله في الدراسة وقسوة والده والفصل من الوظيفة بسبب الغياب كل ذلك قاده إلى إدمان حبوب الكبتاجون والحشيش المخدر وهو الآن يتناول عقارا نفسيا إلا أنه دائم الانفعال والغضب والبكاء في كثير من الأحيان ويحمل نظرة سوداوية وتشاؤمية كبيرة.. ويواجه صعوبات في النوم واضطرابات لا يمكن وصفها.
أما الشاب (ن. س) 28 عاما موظف، فيقول إن صدمة عاطفية أدخلته في دوامة المرض النفسي حيث أصيب في ليلة غابرة بانهيار عصبي حاد ولم يستيقظ إلا في مستشفى الملك فهد بتبوك حيث تم نقله لمستشفى الصحة النفسية وجرى تنويمه سبعة أيام تناول خلالها بعض المهدئات في المستشفى ثم غادره .. لكن حالته لم تتحسن وحين يقطع العلاج يصاب بانتكاسة حادة ويصبح يتصرف بعنف مع إخوانه وأسرته ثم يدخل في نوبات من البكاء كما أن نظرة أسرته وأقربائه على حد قوله أسهمت في زيادة مرضه. ويقول إنه بعد حدوث الصدمة العاطفية قام بتعاطي المخدرات كي ينسى الحادثة لكنه بعد يومين من التعاطي لم ينس تلك الحادثة التي تهيمن عليه طيلة يومه حتى داهمه انهيار عصبي مروع..
الشاب سعود (ن..) 25 عاما عاطل يقول: كانت تنتابني حالة من الخوف والهلع ولا أستطيع النوم وحيدا ولا أستطيع السفر وحيدا ويصيبني الذعر والهلع من كل شيء وأحيانا أشعر أن هناك شخصا يمشي خلفي حتى في دورة المياه يصيبني الخوف وأشعر أن قلبي يكاد يتوقف من الذعر ودائما أتعرق حتى في الشتاء وقد لاحظ والدي حالتي هذه فذهب بي إلى معالج شعبي يعرفه وأمسك بي وقال لوالدي أمسك به وقرأ علي كثيرا ثم قال ابنك مسحور ويحتاج إلى جلسات وتسكنه جنية ولم أصدق أن خرجت من عنده. ولم أعد إلى البيت لمدة يومين فكنت أبيت الليل عند شقيقتي المتزوجة وأستحلفتها بالله ألا تخبر والدي.. وفي النهار أمضي إلى البيت.. ومرة أخرى حاول إجباري والذهاب بي إلى الشيخ المعالج فهربت في نهار قائظ. بعدها قال لي والدي: عد إلى البيت ولن نذهب إليه مرة أخرى. وهاأنا أعيش مع والدي وأسرتي لكنني بالفعل أعاني من تعب كبير.
شاب ملتزم فاجأ الجميع بانتحاره
في ليلة من ليالي الشتاء القارسة سمع دوي رصاصة انطلقت في هدأة الليل ليخرج الجيران على صراخ زوجة الشاب الذي قتل نفسه برصاصة انتحار وهو الذي كان أكثر التزاما ومحافظة على الصلوات لكن زملاءه في العمل يقولون إنه تغير منذ شهرين وراجع طبيبا نفسيا وصار لا ينام على الإطلاق وكل من شاهده يرى الاحمرار في عينيه والشحوب يسكن وجهه.
وتحدث لـ «عكاظ» الشيخ زياد الزهراني وهو أحد المعالجين بالرقية الشرعية أن أسباب الانتحار يأتي في مقدمتها اليأس من رحمة الله التي وسعت كل شيء وعدم التوكل عليه تعالى وأسباب نفسية كالاكتئاب حسب إحصاءات الأمم المتحدة فإنه في أية لحظة ننظر إلى سكان العالم « نجد أن هنالك 450 مليون شخص يعانون من اضطرابات نفسية وعصبية كما أن أكثر من 90 % من حالات الانتحار يرتبط سبب انتحارهم باضطرابات نفسية وتحديدا الكآبة، أي فقدان الأمل الذي كان موجودا لديهم كما أن العزلة أو العدوانية قد تؤدي إلى التفكير بالانتحار وعلى الرغم من الوسائل المتطورة التي تبذل في سبيل معالجة هذا الداء فإن نسبة الانتحار زادت 60 بالمئة خلال النصف القرن الماضي». ويضيف: «ربما تكون عوامل سلبية عديدة هي من دفع بمن استعجل على إنهاء صراعه مع الحياة قد يكون أهمها (توقف الطموح) لدى الإنسان مما يتولد بعد ذلك نزعة انتحارية لدى كل من يحس بهذا الشعور».
وعن المرض النفسي يقول: «هو نمط سيكيولوجي أو سلوكي ينتج عن الشعور بالضيق أو العجز الذي يصيب الفرد ولا يعد جزءا من النمو الطبيعي للمهارات العقلية أو الثقافة. وقد تغيرت أساليب إدراك وفهم حالات الصحة النفسية على مر الأزمان وعبر الثقافات، ومازالت هناك اختلافات في تصنيف الاضطرابات النفسية وتعريفها وتقييمها. ذلك على الرغم من أن المعايير الإرشادية القياسية مقبولة على نطاق واسع. ويستطرد: «إن زيادة المرضى النفسيين في المجتمع تؤدى بلا شك إلى تباطؤ النمو وتوقف عجلة الإنتاج، لذلك يجب القضاء تماما على ظاهرة إهمال بعض الأسر لمريضهم النفسي خشية أن يوصموا جميعا بأنهم مرضى نفسيون فيجعلهم ذلك ينكرون المرض النفسي وأحيانا ينكرون المريض نفسه مما يدفع به إلى الشارع ولابد من إقناع الناس بالعلاج النفسي وكسر حاجز التخوف من ربط المرض النفسي بالجنون.
وعن أسباب تزايد المرضى النفسيين يقول الشيخ الزهراني: «الأسباب كثيرة وحتى أكون أكثر دقة سأجعل الحديث عن زيادة نسبة مراجعي العيادات والمستشفيات النفسية، لأن الحديث عن زيادة مرض ما في مجتمع معين لا بد أن يكون مبنيا على دراسة علمية لا على مجرد انطباع أو وجهة نظر». وزاد قائلا: «إن من أسباب زيادة المراجعين أن تكون هناك زيادة حقيقية في الأمراض النفسية، ويمكن عزو هذه الزيادة إلى أن عوامل التنشئة والتربية التي أشرت إليها سابقا قد تغيرت كيفا وكما، فلم تعد الأسرة أو المدرسة أو حتى المجتمع هي المصادر الوحيدة التي يتلقى منها الطفل أو الشاب ثقافته وأخلاقه، بل ونتيجة للتطور الهائل في مجال الاتصال والإعلام حدث انفتاح كبير على ثقافات أخرى قد لا يميز فيها الناشئ الغث من السمين، ويرى فيها ما يتصادم مع دينه وأخلاقه، علاوة على انشغال الوالدين عن تربية الأبناء خاصة في مرحلتي الطفولة والمراهقة».
وأشار إلى أنه تحت مظلة العوامل البيئية والظروف المحيطة تأتي أسباب أخرى مثل الفراغ والبطالة وهي تربة خصبة لتفاقم المرض النفسي والانغماس في المخدرات وغيرها إلا من عصمه الله. أيضا فإن الإغراق في الكماليات وجعل الحصول عليها من الضرورات أسهم في زيادة الضغوط على الفرد وبالتالي زيادة احتمالية الإصابة بالمرض النفسي خاصة عند الذين هم مهيؤون للإصابة بمثل هذه الأمراض.
ويؤكد الشيخ الزهراني أن هناك سببا آخر يجب الإشارة إليه وهو أن قراءة القرآن الكريم بانتظام والإكثار من الدعاء يؤديان إلى انحسار المرض النفسي بشكل رائع والابتعاد عن ذلك يؤدى بالتأكيد إلى تزايد أعداد المرضى النفسيين. وهذا الكلام ثبت بالتجربة العملية وبمقاييس واضحة وهذا ما نعتمد عليه في طريقة علاجنا بالرقية الشرعية.
وعما إذا كانت الرقية الشرعية كافية لعلاج المريض النفسي قال: يتوقف ذلك على نوع المرض نفسه وعلى تشخيصه الجيد فهناك أمراض مثل السحر والعين والمس لا تعالج إلا بالرقية الشرعية ويتوقف العلاج أيضا على المريض نفسه ومدى تقبله ومدى التزامه بالتعليمات، ولكن حالات الاكتئاب والكبت النفسي التى ينبني عليها أغلب الأمراض النفسية تحتاج بالطبع إلى الطبيب النفسي بجوار المعالج بالرقية الشرعية. وأضاف: «يحدث الكثير من الخلط في أمور الصحة النفسية فلا يفرق أحد بين المرض النفسي والمرض العقلي فيتسبب عدم التفريق في إهمال العلاج وفي نظرة المجتمع للمريض النفسي على أنه معتوه أو مجنون مع أن الإحصاءات تشير إلى أنه لا يكاد يخلو إنسان من نوع من الأمراض النفسية فمن منا لا يعيش القلق أو الاكتئاب أو الانفعالات أو غير ذلك. وخلص زياد الزهراني إلى القول: إنه «بالتجربة العملية ثبت لدى الكثير من علماء النفس حول العالم القدرة العجيبة للقرآن الكريم في إراحة النفس وإذابة جليد اليأس من الصدور وقد خرجت علينا الكثير من مراكز البحث حول العالم بتوثيق نتائج العلاج بالقرآن كما حدث في دراسة حديثة عن الطب النفسي أعدها الباحث الهولندي البروفوسور (فان ديرهوفين) في المستشفى الأكاديمي في امستردام أثبت أن قراءة القرآن وخاصة كلمة (الله) تعالج أصعب الأمراض النفسية وتبعث بهدوء الأعصاب لدى الإنسان. وفى فقرة خاصة عن لفظ الجلالة يقول الباحث إن له فعلا مدهشا يسمو فوق نطاق التفكير البشرى بمراحل.
من جهته قال الدكتور يحيى بن محمد العطوي الباحث ورئيس التوجيه والإرشاد أن الكثير من الأمراض النفسية لا يمكن تفسيرها في ضوء أسس قاطعة، لأن أسبابها كثيرا ما تكون مركبة ومعقدة وليست كل الأمراض تؤدي بالمريض إلى الانتحار ولكن هناك أمراضا نفسية كالاكتئاب العصابي وهي حالة من الحزن الشديد المستمر يعيش فيها الفرد دون أن يدري أو يعلم السبب الحقيقي لاكتئابه، والمكتئب عصابيا لديه جمود انفعالي وتحقير للذات كما أنه يصاب بهلاوس اضطهادية وقد يصل به تشاؤمه وإحساسه بالشقاء وضعف الثقة بالنفس والشعور بعدم القيمة إلى الانتحار. ويقول الدكتور العطوي: «للأسف الشديد الاهتمام بمستشفيات الصحة النفسية لازال دون المأمول خاصة من حيث وجود هذه الخدمة إلا في المدن الكبيرة وكأن أبناء المحافظات والقرى لا يصابون بالمرض النفسي، كما أن تحديد مستشفى خاص بالصحة النفسية فيه إساءة واضحة لهذه الفئة وعليه لابد من دمج هذه المصحات النفسية مع المستشفيات العامة لأن المرض النفسي هو جزء من الأمراض الأخرى العضوية التي تصيب الإنسان لذلك ينبغي علينا أن نتعامل مع تطبيب المريض النفسي بالطريقة نفسها التي نتعامل فيها مع المرض العضوي».
أما الدكتور محمد جمال فيقول: وجدت أن تعاطي حبوب الكبتاجون وبعض أنواع المخدرات تسببت في ظهور أعراض نفسية وفصامية على وجه التحديد، وأضاف: إن المخدرات هي أحد أسباب حدوث المرض النفسي، وهناك حالات إذا أهمل علاجها تقود بلا شك إلى عواقب وخيمة ويصبح المريض يعاني خطرا وربما يقوده ذلك إلى الانتحار. وقال الدكتور جمال: إن المريض النفسي يشعر بآلامه وأوجاعه لكنه يتحدث من الشعور.. بينما المريض العقلي لا يشعر بتصرفاته ولا يدرك سلوكياته الغريبة فأللاشعور والعقل الباطن هما المحرك لممارساته وهنا تكمن الخطورة.
أما الشيخ صالح بن ناصر العضيب فقد نوه إلى أن المرض النفسي من الأمور المقلقة التي ينبغي تضافر الجهود في البحث عن أسبابه وزيادته ثم البحث عن وسائل العلاج، فنسبة المرضى النفسيين في تصاعد، وهذا مؤشر خطير على وضع الكثيرين.. ومن أعظم أسباب زيادة المرض النفسي إغراق المدنية المعاصرة في العناية بعالم المادة كثيرا وقصرت في العناية بعالم الروح حيث زيادة الضغوط الخارجية لا تستطاع مقاومتها إلا بالعلاقة الروحية التي يكون فيها العبد متعلقا بربه، لذا قال يعقوب عليه السلام بعد سلسلة من الضغوط الخارجية ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون ).. وقد امتن الله تعالى على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله ( ألم نشرح لك صدرك).