-A +A
طارق على فدعق
بدأت فكرة هذا المقال اليوم عندما عشت بعض من لحظات الواقع المرير الذي أدفع فيه ثمن أخطاء تكررت على مدى السنين. الموضوع يتلخص في كثرة أكل اللبنية والهريسة وما شابههما، والثمن الواجب دفعه هو خراب أجزاء من أسناني، وضرورة ترميمها بحشو من هنا، وترميم من هناك. وكانت في يد الطبيب ماكينة ذات رأس صغير جدا أشد صلابة من الفولاذ. وكانت تحول الطاقة الكهربائية الى دوران عنيف يصل الى حوالى أربعمائة ألف لفة في الدقيقة الواحدة. وسبحان الله أن الصوت الصادر عنها يشبه ملايين من حروف الزين مشبوكة ببعضها البعض..ززززززز... الى أن تلامس سطح سني الغلبان فتتحول الى آلة حفر دقيقة فتاكة. وأثناء كل هذا رأيت ما يشبه الابتسامة السريعة على وجه طبيب أسناني تحت قناعه الواقي وكأنه يقول «لقد تم تحذيرك». ومرت لحظات وكأن جسمي بأكمله هو الذي يدور بسرعة أربعمائة ألف لفة في الدقيقة حول السن.. وبالمناسبة فتعادل سرعة هذا الدوران حوالى خمسة أمثال أقصى سرعة محرك «البورشه تيربو». الجميل في الموضوع أن لحظات كهذه تسمح بأن يسبح خيالك إلى العديد من مواضيع الأنفاق المختلفة. سبح خيالي إلى عالم المخلوقات ومنها بعض القوارض التي تعيش من حفرة الى أخرى في الظلام الدامس لدرجة أن بعضها ليست لديها عيون بالكامل. وهناك أيضا بعض من أنواع النمل التي تقضي حياتها في حفر مستمر لتيسير مسارات نقل وتهوية للآلاف من زميلاتها. ولكن الحفر لا يقتصر على عالم الحيوانات فحسب، ففي عالم الإنسان أيضا نجد بعض الروائع المذهلة ومنها نفق القنال الإنجليزي (المانش) الذي يربط إنجلترا بفرنسا بطول حوالى 50 كيلومترا ومعظمه تحت البحر. ويصل الى أعماق مذهلة تعادل ارتفاع عمارة الفرع الرئيس للبنك الأهلي في وسط جدة. استغرق حفر ذلك النفق فترة ست سنوات وكلف حوالى ضعف ميزانيته المرصودة مما أغرق دافعي الضرائب في الحزن. ولكن قمة حزن الحفر ستجدها أقرب إلينا بكثير وتحديدا في أنفاق غزة. تذكرت موضوعا قرأته في مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» عن آلام أنفاق تلك المدينة الحزينة. والمؤلم هنا هو أنه من خلال قصص حفر تلك الأنفاق تنعكس قسوة البشرية بأكملها، والقدرة على اللامبالاة تجاه أوضاع الشعب الفلسطيني. مدينة غزة تعيش تحت الحصار منذ سنوات و أصبحت آلاف الأنفاق الممتدة تحت الأرض نحو مدينة رفح هي وسيلة لإمداد المدينة باحتياجاتها الأساسية بسبب ممارسات العنجهية المفرطة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية. قرأت عن قصص شباب قتلوا بالغاز السام أثناء محاولة جلبهم للبضائع تحت الأرض. وعمن دفنوا تحت الأنقاض بسبب هشاشة التربة. وقرأت عن اتهامات بتهريب الأسلحة وتلفيق التهم لشباب يحاولون الحصول على الاحتياجات الأساسية كالوقود والطحين. وكل هذه التهم لتبرر المزيد من القسوة ضد أهالي غزة.
أمنية
سبحان الله أن بعضا من أبسط الأمور تحمل معاني كبيرة وكثيرة. بدأت بآلام أسناني ولكنها امتدت الى آلام من نوع آخر على معاناة الشعب الفلسطيني الشقيق بداخل هذه الأنفاق الخطرة التي تعطي معنى جديدا لمفهوم «البنية التحتية». أتمنى ألا ننسى معاناة المظلومين بشكل عام، بداخل الحفر وخارجها، وبالذات في الشقيقتين فلسطين، وسوريا. واللهم صبر شعوبهم.
وهو من وراء القصد.

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 122 مسافة ثم الرسالة