تفجرت ثورة الإنترنت أواخر ستينيات القرن الماضي في أمريكا، وتطورت، وانتقلت خارج الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم ما أحدثته من فتح عظيم في تاريخ تبادل المعلومات لخدمة البشرية في كافة المجالات، إلا أن أرباب الجريمة وجدوا في تلك الثورة أعظم خدمة لتنفيذ مخططاتهم الإجرامية عبر هذه الوسيلة العصرية المعقدة، التي تجنبهم الكثير من كمائن الطرق التقليدية التي تسقطهم في قبضة مؤسسات مكافحة الجريمة في دول العالم.
انتشرت خدمة الإنترنت في دول العالم انتشارا سريعا غير متوقع، وتشير الإحصائيات إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت عام 1998م بلغ 34 مليون مستخدم، وفي عام 2005 أكثر من 245 مليون مستخدم، معظمهم من خارج أمريكا. والمملكة من الدول التي حرصت على الاستفادة من الخدمة، إذ بدأت تشغيلها عام 1419هـ، وهي سنوات قليلة مقارنة بدول أخرى، رغم ذلك كان لافتا تزايد عدد المستخدمين للإنترنت من عام لآخر، وتشير الإحصائيات إلى أن عدد المستخدمين عام 2000 بلغ 200 ألف مستخدم، ثم قفز هذا الرقم في عام 2006 ليبغ أكثر من خمسة ملايين مستخدم.
ونظرا لحداثة الإنترنت في المملكة ما زال معظم المستخدمين يجهلون الكثير من تفاصيل الخدمة، غير مدركين للمخاطر المفجعة من جرائم الجنس والجرائم المالية والقرصنة والاختراقات والمواقع المعادية، لا سيما أن تلك الجرائم باتت داخل منازلنا ومكاتبنا ومقاهينا وفي شوارعنا الذكية.
الباحث في جرائم الإنترنت الدكتور محمد المنشاوي، أوضح لـ«عكـاظ» أن المملكة بدأت في تقديم الخدمة بشكل رسمي للقطاعين الخاص والعام عام 1419هـ، وصاحب دخول هذه الخدمة إلى المملكة كغيرها من الدول الأخرى ظهور أنماط مختلفة وجديدة من الجرائم لم تكن مألوفة من قبل، وإن كانت هذه الجرائم لا تعتبر حتى اليوم ظاهرة لكن الخطر عظيم.
وأضاف أن الجهات المختصة مطالبة بمواكبة هذه المرحلة وتحديث أساليب عملها بما يتوافق مع التقنية الحديثة وإفرازاتها وإلا تفشت هذه الجرائم وشكلت ظاهرة تقلق المجتمع وأمنه ووجدت الجهات المختصة نفسها متخلفة عن المجرمين ممن تسابقوا إلى استخدام هذه التقنية والأخذ بها بل استغلالها في أنشطتهم الإجرامية، وهو الأمر الذي يمثل خطرا محدقا يتربص بالمجتمع وأمنه ما لم تسارع الجهات المعنية إلى المبادرة في التعرف عن قرب إلى هذه الأنماط الجديدة لتكون قادرة على مواجهتها والتعامل معها درءا لخطرها.
وأكد المنشاوي أن حرص الدولة على أمن الوطن والمواطنين كان سببا في تأخر تقديم خدمة الإنترنت في المملكة، ويعود ذلك لأسباب مختلفة لعل من أهمها التقليل من سلبيات هذه الخدمة، ونجحت في ذلك إلى حد ما، حيث لا تمثل جرائم الإنترنت ظاهرة في المجتمع حتى اليوم، وقال: يعود الفضل في ذلك بعد الله إلى أن قوانين وتشريعات المملكة المستمدة من الشريعة الإسلامية قد تضع بعض الحواجز أمام من يرتكب مثل هذه الجرائم من داخل المملكة، إلا أنه ومع ذلك فقد صاحب دخول الخدمة ظهور أنماط جديدة من الإجرام -كغيرها من الدول التي أخذت بالتقنية الحديثة- فالطبيعة البشرية في كل مكان معرضة للضعف والنفس أمارة بالسوء، لذلك يجب العمل على تفعيل وتطوير الأنظمة الرادعة دائما لتواكب مستجدات الجريمة المتطورة دوما.
وبين أنه على الرغم من حداثة الإنترنت في بلادنا إلا أن الدراسات أظهرت أن حجم الخسائر المادية لجرائم الحاسب الآلي، همزة الوصل لشبكة الإنترنت في المملكة تقدر بملايين الدولارات، وهو مؤشر مهم يجب الأخذ به عند تصور حجم جرائم الإنترنت المتوقعة في المجتمع السعودي خاصة أن أية جريمة ترتكب في الإنترنت لا يمكن أن ترتكب إلا من خلال الحاسب الآلي.
وفي ما يتعلق بالدراسة التي أجراها عن جرائم الإنترنت قبل سنوات، قال المنشاوي: كان هدفي من الدراسة تحديد الممارسات الخاطئة للإنترنت لأن بعض الممارسات ليست جرائم بغض النظر عن الرأي الشرعي والوضعي للجريمة، حيث إن هناك ممارسات لا تصل للجريمة ولم يكن لدينا تحديد لها كنا نهدف إلى معرفة حجم المشكلة وهل في المملكة ما يجب أن يلتفت اليه المسؤولون وصناع القرار، والأمر الثالث لا بد أن تقوم الجهات المختصة بدورها لمعالجة جرائم الانترنت لأنه ربما لا يعرف الكثيرون من المجتمع سواء مستخدمين أو غير مستخدمين عن الجهة المنوط بها تلقي البلاغات وملاحقة المجرمين.
وشدد على أهمية التوعية الإعلامية بمخاطر الإنترنت وكيفية مواجهتها عبر الوسائل المقروءة والمرئية والمسموعة، لكي يعي المجتمع بكافة شرائحه الخطر المحدق، لا سيما أن غالبية المستخدمين يعتقدون أن الدور الحالي لهيئة الاتصالات وتقنية المعلومات الجهة المسؤولة عن الإنترنت في المملكة محصور فقط في حجب المواقع الإباحية بينما لو تعرضوا للابتزاز أو القرصنة فلا يعلمون إلى أية جهة يتقدمون بشكواهم. ورغم أن المنشاوي يعتبر أن جرائم الإنترنت في المملكة لم تصل لمستوى الظاهرة حتى اليوم، إلا أنه أكد أن حجمها كبير، وما يضاعف من حجم المشكلة، رسائل البريد الإلكتروني التي ترد لصغار السن وتحمل صورا إباحية رغم أن تلك المواقع محجوبة، وقد يتلقون رسائل مجهولة تهدم العقيدة أو رسائل معادية للوطن، مشيرا إلى أن الإرهابيين يجندون الشباب عبر الشبكة، ويستمدون 80 في المئة من معلوماتهم من خلالها؛ وهي مادة خصبة لتجنيد الناس وتغيير أفكارهم، وقال: الإرهابيون يستخدمون الإنترنت لنشر أفكارهم، وتجنيد الآخرين والدعاية وقطع الرؤوس، والتغرير بالناس، ويجب أن نعلم أننا لا نعيش في مدينة أفلاطون الفاضلة، وليس هناك دولة ليس فيها سلبيات حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت هناك سلبيات.
وأظهرت دراسة المنشاوي وهي أول رسالة عن جرائم الانترنت في المملكة أن الجرائم الجنسية والممارسات غير الأخلاقية التي يرتكبها مستخدمو الإنترنت في المجتمع السعودي (من مختلف الجنسيات) تتمثل في ارتياد المواقع الجنسية، بينما كان تدمير المواقع أكثر جرائم الاختراقات شيوعا، إضافة إلى اختراق المواقع حكومية والتجارية والشخصية ومواقع محلية وخليجية وعربية وعالمية، وارتكاب المستخدمين جرائم وممارسات مالية منها الاستيلاء على البطاقات الائتمانية ولعب القمار والتزوير، وارتياد مواقع الجريمة المنظمة ومواقع المخدرات وغسيل الأموال، فيما تورط عدد من المستخدمين الذين شملتهم الدراسة في جرائم وممارسات إنشاء المواقع المعادية أو الاشتراك فيها وتشمل إنشاء مواقع سياسية معادية، أو الاشتراك طوعا في المواقع السياسية المعادية، أو التعرض للاشتراك القهري في المواقع السياسية المعادية، والقيام بإنشاء مواقع دينية (سنية، شيعية، نصرانية، يهودية، بوذية، هندوسية).
كما بينت الدراسة أن أكثر جرائم القرصنة شيوعا في المجتمع السعودي، إنشاء مواقع للبرامج المقرصنة أو تحميل برامج مقرصنة أو استخدام برامج تشغيل البرامج المقرصنة، أو إنشاء مواقع مقرصنة.
وأظهرت نتائج الدراسة أن أكثر جرائم وممارسات الإنترنت شيوعا في المجتمع السعودي جرائم الاختراقات، الجرائم المالية، جرائم المواقع المعادية كجرائم وممارسات متوسطة الشيوع، أما الجرائم والممارسات الأقل شيوعا فاتضح أنها الجرائم الجنسية وممارسة الأفعال غير الأخلاقية.
من جهته، أكد الباحث المتخصص في الإنترنت الدكتور فايز الشهري أن جريمة الإنترنت جريمة معقدة، ذات طبيعة فنية تقنية، سواء في الأساليب الإجرامية، أومن حيث اتساع انتشار دائرة المتأثرين بها، إضافة إلى تعقيد إجراءات الرصد، الضبط، التحقيق، وحتى الإثبات.
وأضاف: جرائم الإنترنت بطبيعتها عالمية الاتجاه تخدمها ظروف قانونية وثقافية مختلفة إذ عادة لا ينظر ثقافيا لبعض المخالفات على الشبكة ذات النظرة التي ترسخت تجاه المجرم والجرائم التقليدية.
وزاد، المشكلة أيضا أن صور جرائم الانترنت كثيرة سواء الفكرية، الأخلاقية، المالية، والتقنية، ومن الصور الواضحة اليوم جرائم نشر الفيروسات، سرقة البريد الالكتروني، إنشاء مواقع مخالفة، التشهير، الابتزاز، التلصص، الاحتيال، والتغرير بالمراهقين.
حجم جرائم الإنترنت في المملكة
وأوضح الدكتور الشهري أنه لا بد من الاعتراف أن الجرائم الإلكترونية، خاصة التي تتم عبر شبكة الانترنت، يمكن ملاحظة آثارها على مدار الساعة، هذا إذا توسعنا في مفهوم الجريمة الإلكترونية، ولو تم رصد دقيق لها لظهرت لنا أرقاما مفجعة، أما من ناحية الواقع فلا توجد حتى اليوم إحصائية تفصيلية للجرائم الالكترونية في المملكة على حد علمي. أما المؤشرات العامة فتبدو مقلقة في مجتمعنا خاصة في موضوع الجرائم الفكرية والأخلاقية، ولا أدل من ظاهرة التحالف بين مستحدثات التقنية، مثل نشر مقاطع البلوتوث الخاصة على الإنترنت واستسهال إنشاء والمشاركة في المواقع الإباحية وما يتم من نشاطات منحرفة في غرف الدردشة بين الشباب من الجنسين.
مواجهة الجريمة
وفيما يتعلق بمواجهة الجريمة الإلكترونية، قال الشهري «لا بد من العمل ولا يكفي أن نخشى جرائم الانترنت فهي الوجه الثاني لمعطيات الحضارة التقنية، ولكن من الواضح أنه بعض الجرائم تقليدية ستختفي، وتظهر أخرى وهذه سنن اجتماعية، وفي المملكة هناك ثلاثة خطوط مهمة متكاملة إذا أردنا مكافحة هذا النمط وغيره من أشكال الانحراف، بناء حصانة أخلاقية لدى الشباب من خلال التربية، نشر الوعي العام بخطر الاستخدامات السلبية عن طريق التوعية بالتقنية، وفرض النظام وتطبيقه حال اكتمال شروط المخالفة». وأضاف «في المملكة، نص نظام مكافحة جرائم المعلوماتية في مادته الثالثة على السجن والغرامة لكل من ارتكب إحدى الجرائم المعلوماتية مثل التنصت والدخول غير المشروع لتهديد شخص أو ابتزازه لحمله على القيام بفعل أو الامتناع عنه، والدخول غير المشروع إلى موقع الإلكتروني، الدخول إلى موقع إلكتروني لتغيير تصاميم هذا الموقع أو إتلافه أو تعديله أو شغل عنوانه، والمساس بالحياة الخاصة عن طريق إساءة استخدام الهواتف النقالة المزودة بكاميرا أو ما في حكمها، التشهير بالآخرين وإلحاق الضرر بهم عبر وسائل تقنيات المعلومات المختلفة».