هناك فجوة بين مخرجات التعليم الجامعي وسوق العمل لا أحد يمكن أن يتجاهلها. وهي فجوة نتجت بسبب غياب استراتيجية للتعليم الجامعي. قد لا نلوم أحدا، بل الموقف لا يحتمل الملاومة. إنما السعي نحو تصحيح المفاهيم يعد مطلبا ملحا. وقبل البدء في طرح هذه الإشكالية ينبغي أن نستثني من هذه الإشكالية كليات الطب والهندسة، حيث يخضع طلاب هذه الكليات قبل التخرج لدراسة ميدانية ترفد تعليمهم النظري. إشكالية التعليم الجامعي مع المجتمع تكمن كثيرا في تدريس العلوم الإنسانية التي يتباين فيها الدرس النظري المعرفي عن احتياجات المجتمع.
في النصف الثاني من القرن العشرين وقع مخططو التعليم الجامعي في العالم العربي ومجتمعنا على وجه الخصوص في حيرة بين تسخير التعليم الجامعي للمعرفة، وبين تلبية حاجة المجتمعات العربية لرفد مرافق التنمية بجيل جامعي مؤهل. فالإشكالية جاءت من يقين المخططين أن التعليم الجامعي ليس معنيا بتأهيل الطلاب مهاريا، بل ينصرف الاهتمام لبناء العقول وزرع ثقافة التفكير. في المقابل يطالب مجتمع الأعمال بكوارد للتنمية تسد الحاجة وتملأ الفراغ. وواضح أن المخططين للتعليم الجامعي انحازوا في ذلك الحين لنظرية التعليم المعرفي، وهو أصل التعليم الجامعي. فعند تصميم المناهج الجامعية جاء معظمها نظريا، وفيا لنظرية التعليم المعرفي. غير أن المفارقة أن هؤلاء الطلاب عند تخرجهم اضطروا لمزاولة مهمن ووظائف إدارية لم تقم الجامعة بتعليمها. فظهر عجزهم، وعدم قدرتهم على الإسهام في تلبية احتياج المجتمع.
في المجتمعات المتقدمة عادة تكون المعاهد المهنية والكليات التقنية أهم من التعليم الجامعي مع مراقبة جودتها، فمخرجاتها تؤدي دورا حيويا في تنمية المجتمع. وهو ما تنبهت له المجتمعات العربية لاحقا، ومجتمعنا من بين هذه المجتمعات. فبعد تأسيس سبع جامعات بدأ مشروع الكليات التقنية وكليات المجتمع. وتم إعادة تصميم كثير من المناهج الدراسية في الجامعات السعودية لتلبي احتياجات المجتمع.
والحقيقة أن ضغط مؤسسات الأعمال والقول بأن خريجي الجامعات لا يلبون احتياجات العمل، وأنهم يفتقرون للتأهيل دفع الجامعات لإعادة التفكير في تصميم مناهج تلبي احتياجات سوق العمل، لكنها لم تنفك تماما من التوجه المعرفي، فقامت بتغيير مفردات المواد وابتكار مواد لها طبيعة التدريب. غير أن الحقيقة تبقى قائمة، فخريجو الجامعات لا يمكن أن يكونوا مؤهلين لشغل وظائف مهنية حتى بعد خلطة تغيير المناهج.
الحلول كثيرة وعملية. من أهمها أن تبقي الجامعات على توجهها المعرفي، وتقوم مؤسسات الأعمال بواجبات التدريب على رأس العمل. وأهمية ذلك تكمن في أن المتدرب مؤهل ذهنيا للابتكار والإبداع وفقا لتعليمه وعمره، وهذا يختلف نسبيا عن خريجي كليات التقنية أو المعاهد الأخرى. ففي الدول المتقدمة لا ينصرف التعليم الجامعي لملاحقة سوق العمل، بل الطالب يحصل على تأهيل نظري كامل، وبعد تخرجه يتقدم للحصول على وظيفة على أن يكون تدريبه على رأس العمل. وقد قرأت أن شركة أبل توظف عددا من خريجي الجامعات من تخصصات نظرية لا علاقة لهم بتقنية الحاسبات. والهدف هو استثمار قدرات التفكير النظري لدى هؤلاء الخريجين. ففي أبل إلى جانب مهندسيها نجد دارسي الأدب والتاريخ والاجتماع وعلم النفس والإعلام وغيرهم من ذوي الاختصاصات النظرية.
ولننظر لتجربة البنوك التي اعتمدت سياسة التأهيل على رأس العمل، حيث استقطبت طلابا من تخصصات نظرية مختلفة، وما كان للتجربة إلا أن تنجح، ذلك أن الرهان لم يكن إلا على الذهنية المعرفية التي اكتسبها الطالب بعيدا عن التخصص الدقيق الذي قد لا يكفي للتأهيل للعمل.
هل تعيد وزارة التعليم العالي رسم استراتيجية التعليم الجامعي، وإعادة رسم صورته في المجتمع، بدلا من التشتت بين المعرفة وبين التأهيل لسوق العمل؟! أعتقد أننا نعيش تجربة تعليم قلقة، فلا الطالب أخذ المعرفة، ولا استطاع مواكبة متطلبات سوق العمل!.
halnemi@gmail.com
في النصف الثاني من القرن العشرين وقع مخططو التعليم الجامعي في العالم العربي ومجتمعنا على وجه الخصوص في حيرة بين تسخير التعليم الجامعي للمعرفة، وبين تلبية حاجة المجتمعات العربية لرفد مرافق التنمية بجيل جامعي مؤهل. فالإشكالية جاءت من يقين المخططين أن التعليم الجامعي ليس معنيا بتأهيل الطلاب مهاريا، بل ينصرف الاهتمام لبناء العقول وزرع ثقافة التفكير. في المقابل يطالب مجتمع الأعمال بكوارد للتنمية تسد الحاجة وتملأ الفراغ. وواضح أن المخططين للتعليم الجامعي انحازوا في ذلك الحين لنظرية التعليم المعرفي، وهو أصل التعليم الجامعي. فعند تصميم المناهج الجامعية جاء معظمها نظريا، وفيا لنظرية التعليم المعرفي. غير أن المفارقة أن هؤلاء الطلاب عند تخرجهم اضطروا لمزاولة مهمن ووظائف إدارية لم تقم الجامعة بتعليمها. فظهر عجزهم، وعدم قدرتهم على الإسهام في تلبية احتياج المجتمع.
في المجتمعات المتقدمة عادة تكون المعاهد المهنية والكليات التقنية أهم من التعليم الجامعي مع مراقبة جودتها، فمخرجاتها تؤدي دورا حيويا في تنمية المجتمع. وهو ما تنبهت له المجتمعات العربية لاحقا، ومجتمعنا من بين هذه المجتمعات. فبعد تأسيس سبع جامعات بدأ مشروع الكليات التقنية وكليات المجتمع. وتم إعادة تصميم كثير من المناهج الدراسية في الجامعات السعودية لتلبي احتياجات المجتمع.
والحقيقة أن ضغط مؤسسات الأعمال والقول بأن خريجي الجامعات لا يلبون احتياجات العمل، وأنهم يفتقرون للتأهيل دفع الجامعات لإعادة التفكير في تصميم مناهج تلبي احتياجات سوق العمل، لكنها لم تنفك تماما من التوجه المعرفي، فقامت بتغيير مفردات المواد وابتكار مواد لها طبيعة التدريب. غير أن الحقيقة تبقى قائمة، فخريجو الجامعات لا يمكن أن يكونوا مؤهلين لشغل وظائف مهنية حتى بعد خلطة تغيير المناهج.
الحلول كثيرة وعملية. من أهمها أن تبقي الجامعات على توجهها المعرفي، وتقوم مؤسسات الأعمال بواجبات التدريب على رأس العمل. وأهمية ذلك تكمن في أن المتدرب مؤهل ذهنيا للابتكار والإبداع وفقا لتعليمه وعمره، وهذا يختلف نسبيا عن خريجي كليات التقنية أو المعاهد الأخرى. ففي الدول المتقدمة لا ينصرف التعليم الجامعي لملاحقة سوق العمل، بل الطالب يحصل على تأهيل نظري كامل، وبعد تخرجه يتقدم للحصول على وظيفة على أن يكون تدريبه على رأس العمل. وقد قرأت أن شركة أبل توظف عددا من خريجي الجامعات من تخصصات نظرية لا علاقة لهم بتقنية الحاسبات. والهدف هو استثمار قدرات التفكير النظري لدى هؤلاء الخريجين. ففي أبل إلى جانب مهندسيها نجد دارسي الأدب والتاريخ والاجتماع وعلم النفس والإعلام وغيرهم من ذوي الاختصاصات النظرية.
ولننظر لتجربة البنوك التي اعتمدت سياسة التأهيل على رأس العمل، حيث استقطبت طلابا من تخصصات نظرية مختلفة، وما كان للتجربة إلا أن تنجح، ذلك أن الرهان لم يكن إلا على الذهنية المعرفية التي اكتسبها الطالب بعيدا عن التخصص الدقيق الذي قد لا يكفي للتأهيل للعمل.
هل تعيد وزارة التعليم العالي رسم استراتيجية التعليم الجامعي، وإعادة رسم صورته في المجتمع، بدلا من التشتت بين المعرفة وبين التأهيل لسوق العمل؟! أعتقد أننا نعيش تجربة تعليم قلقة، فلا الطالب أخذ المعرفة، ولا استطاع مواكبة متطلبات سوق العمل!.
halnemi@gmail.com