-A +A
نجيب الخنيزي
الرؤية الأيدلوجية والسياسية للمحافظين الجدد تقوم على التالي. أولا: الإيمان بالدور القيادي «الرسولي» الحتمي الذي تضطلع به الولايات المتحدة، لإعادة تشكيل النظام الدولي على صورتها ووفقا لقيمها ومثلها (الأدق قيم ومثل المحافظين الجدد) دون أدنى اعتبار لمبادئ القانون والشرعية والمعاهدات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، وبالتالي دون الحاجة إلى مشاورة و مشاركة اقرب حلفائها (دول حلف الناتو) ونذكر في هذا الصدد وصف «القارة العجوز» الذي أطلقه المحافظون الجدد على دول الاتحاد الأوروبي. ثانيا: القناعة الراسخة بأن قدرة أمريكا العسكرية هي الأداة الأساسية لقيادة العالم وتغيره، وان السلام الحقيقي يأتي كنتيجة للانتصار في الحرب، لذلك يجب اللجوء إلى انتهاج سياسة القوة القصوى لتنفيذ الأجندات الموضوعة، مثل مكافحة الإرهاب التي تحولت لاحقا إلى الحرب المفتوحة على الإرهاب، التي ادرج في إطارها مجموعات ودول ومناطق مختلفة في العالم، غير أن رأس الحربة فيها موجهة ضد أهداف ومجموعات (بما في ذلك حركات المقاومة في فلسطين ولبنان) ودول في العالمين العربي والإسلامي، وذلك لأهداف استراتيجية وأسباب أيدلوجية وسياسية، من أهمها الحفاظ على أمن ومصالح إسرائيل، ووجودها كقوة مهيمنة ضمن المجال الحيوي للشرق الأوسط برمته. ثالثا: المطالبة بتطوير القوات المسلحة الأمريكية على كل المستويات (قدرت مخصصات وزارة الدفاع بحوالى 400 مليار دولار في هذا العام وهي تفوق مجموع الميزانيات العسكرية للدول الخمس عشرة التي تليها مباشرة) وهو يصب في اتجاه خدمة مصالح المجتمع العسكري، واحتكارات صناعة السلاح في الولايات المتحدة، وبالتأكيد فإن هذه القوة التدميرية الهائلة التي بحوزة الولايات المتحدة، تتعدى بكثير متطلبات مواجهة حركات ومجموعات إرهابية أو حتى دول متهمة برعاية الإرهاب. رابعا: تبنى المحافظون الجدد أيدلوجية «الليبرالية الجديدة» على المستوى الاقتصادي التي تستند إلى فرض الهيمنة (الأمركة) على نظام العولمة، وما تتضمنه من تدويل واسع على صعيد الإنتاج والتبادل، وتداول الخدمات والمال والاتصالات والإعلام والمعرفة ومنظومة القيم والأفكار، وذلك من خلال التحكم بالمؤسسات المالية والتجارية الدولية مثل البنك الدولي (يرأسه حاليا بول وولفيتز وهو أحد صقور المحافظين الجدد) وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالية، وكذلك بالمواقع والقطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، وفي مقدمتها النفط (مكامن وممرات) واستخدامها كأداة ضغط في المنافسة المحتدمة بينها وبين المراكز الاقتصادية التقليدية الأخرى مثل الاتحاد الأوروبي واليابان، أو الاقتصاديات البازغة مثل الصين والهند وغيرهما، ومن هنا نفهم الاهتمام المبكر (قبل أحداث 11سبتمبر الإرهابية) بأفغانستان كممر حيوي لنفط آسيا الوسطى، و العراق الذي يطفو فوق بحيرات هائلة من النفط، وفي هذا الإطار جرى الترويج لمبدأ السيادة الوطنية المحدودة، أو حتى إلغاؤها عندما تتعارض مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية، كما ركزوا على رفع القيود و الضوابط على صعيد الاقتصاد والتجارة، وحرية انتقال السلع، والمنتجات، والخدمات، والنشاط المالي، وبالطبع سيكون ذلك في اتجاه واحد بحكم عدم التكافؤ في مستويات التطور الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي بين دول المركز ونواته الأساسية الولايات المتحدة، وبين دول الأطراف والمحيط التي تشكل غالبية دول ومجتمعات العالم. خامسا: تبنى المحافظون الجدد سياسة اجتماعية منحازة لصالح الأثرياء والشركات الرأسمالية الكبرى على حساب مصالح الفقراء وشرائح واسعة في المجتمع الأمريكي، وباقي مجتمعات العالم، و تقوم على فكرة إلغاء مفهوم «الدولة الراعية» ودورها ووظيفتها الاجتماعية، ومن هنا تركيزهم على سياسة إعادة التثبيت الهيكلي للاقتصاد، من خلال رفع الدعم عن قطاعات مهمة مثل الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي، وفي المقابل تقليص الضرائب على الشركات الكبرى وإطلاق العنان لقوى وقوانين السوق «الغابيّة» دون أي ضوابط.
سادسا: رفض السياسة الواقعية (البرجماتية) التي ينتهجها المحافظون التقليديون مثل الرئيس السابق جورج بوش او هنري كيسنجر، أو السياسة المترددة مثل مواقف كولن باول وزير الخارجية السابق، باعتبار أن الواقعية و التردد، يمثلان حالتين خطيرتين تهددان الدور القيادي للولايات المتحدة.

التقت هذه الأجندة للمحافظين الجدد، مع الجماعات اليمينية المحافظة، والتيار المسيحي الأصولي، على أرضية معاداة ثقافة الليبرالية و اليسار الأمريكي الجديد (سواء داخل الحزب الديموقراطي او المجتمع الأمريكي) و مواقفه الأخلاقية و الاجتماعية والسياسية، ومن هنا ربط المحافظون الجدد بين النازية، و الشيوعية، و الإرهاب، و الأصولية الإسلامية، و قد تجلى ذلك في خطب بوش الأخيرة، التي افتقدت أية رؤية تاريخية وتحليلية دقيقة، حين ربط بشكل ارادوي وتعسفي و مجرد، بين هتلر ولينين وحماس وحزب الله والإسلام الفاشي في حزمة واحدة، وقد تبلورت و جهات نظر ومواقف المحافظين الجدد قبل ان يصلوا الى السلطة، من خلال مراكز الأبحاث اليمينية التي تتضمن أفكارهم و أطروحاتهم حول السياسة العامة في الولايات المتحدة، والسعي لاقناع الإداره الأمريكية، و الكونغرس بفلسفة المحافظين الجدد، التي تتبنى التدخل الاقتحامي المنفرد في الشؤون الخارجية، وخاصة في الشرق الأوسط و نشير في هذا الصدد الى تقرير «استراتيجية الدفاع لعقد التسعينيات» الذي اعده ديك تشيني و زملاؤه قبل ثماني سنوات (1992) من وصوله الى منصبه الحالي كنائب للرئيس، واختار هو و زملاؤه من المحافظين الجدد العراق كهدف لتطبيق تلك الفلسفة خدمة لأمن إسرائيل، ولتحويل العراق قاعدة عسكرية دائمة للولايات المتحدة في المنطقة، و في عام 1996 عقد مؤتمر في القدس بدعوة من رئيس الوزراء آنذاك بنيامين نتانياهو لمناقشة الوسائل الملائمة لتغير نهج الحزب الديمقراطي الأمريكي، على صعيد سياسته الخارجية وخاصة اهتمامه بموضوع حقوق الإنسان و الديموقراطية (اصبح هذا الشعار يتصدر اطروحات المحافظين الجدد اثر وصولهم للسلطة) و التركيز بدلا من ذلك على الحرب ضد الإرهاب، وفي ذلك المؤتمر قدمت مجموعة من المحافظين برئاسة ريتشارد بيرل الذي كان آنذاك كبير الباحثين في معهد «اميريكان انتير برايز للسياسات العامه في واشنطون» الذي شغل لاحقا منصب رئيس مجلس السياسة الدفاعية التابع لوزارة الدفاع الأمريكية في عهد بوش الأبن اثناء غزو العراق، و عضوية دوغلاس فيث الذي اصبح لاحقا وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية ومسؤول السياسة الدفاعية، و ديفيد دومسر من «معهد الدراسات الاستراتيجية و السياسة المتقدمة» وآخرين من انصار إسرائيل، خطة استراتيجية جديدة تحت عنوان الفرصة السانحة (a clean break) تدعو نتانياهو إلى التخلي عن اتفاقات اوسلو و تجاوز مبدأ «الأرض مقابل السلام» الى «السلام مقابل السلام» و اعتماد علاقة استراتيجية جديدة مع الولايات المتحدة، تستند إلى الفلسفة التي تجمعهما معا وهي فلسفه السلام من خلال القوة، وإعادة تشكيل الوضع في المنطقة بما يخدم امن اسرائيل، و جاء في تلك الخطة «أن بوسع اسرائيل ان تعيد تشكيل البيئة الاستراتيجية المحيطة بها من خلال التعاون مع الأردن و تركيا وإضعاف سوريا وإسقاط نظام صدام حسين في العراق» كما نذكر في هذا الصدد التقرير المسمى «بمشروع القرن الأمريكي الجديد» الذي صدر في يونيو عام 1997 وهو يشرح فلسفة المحافظين الجددالذي يستهدف فرض الهيمنة الأمريكيه على العالم، بعد أن تفردت الولايات المتحدة بالزعامة العالمية، اثر تفكك الاتحاد السوفيتي، وقد وقّع على هذا المشروع ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وبول وولفوفيتز وزلماي خليل زاد (السفير الحالي للولايات المتحده في العراق) و غيرهم وقد وجهوا رسالة إلى الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون يتضمن مطالبهم لكن الرئيس كلينتون لم يعرهم اهتماما كبيرا آنذاك، غير أن فوز جورج بوش (بفارق ضئيل للغاية) على منافسه الديمقراطي أل جور في انتخابات سنة 2000 وذلك بفضل الدعم الكبير الذي تلقاه من قبل تحالف المحافظين الجدد واليمين (الأصولي) المسيحي، ثم وقوع أحداث 11 سبتمبر المأساوية، التي ساهمت في تغيير قناعات الرئيس جورج بوش، جعلته يتبنى أجندة المحافظين الجدد الذين أصبحوا القوة الأساسية المؤثرة في الإدارة الأمريكية والكونغرس.