وجدت في تصريح وزير التربية والتعليم بداية موفقة لفهم معضلة التعليم، فقد صرح أن المشكلة تنحصر في المعلم والبيئة المدرسية.
في حالة البيئة المدرسية تبدو الأمور أسهل نسبيا في التعاطي معها ومقاربة حلها، ذلك أنها أمر مادي يمكن العمل عليه والتغلب على الصعوبات المختلفة.
أما مشكلة المعلم فهي معقدة جدا لأنها إنسانية في المقام الأول. لنبدأ في فحص أبعاد هذه المشكلة وتاريخ نشأتها. بالتأكيد مشكلة المعلم لم تنشأ بين عشية وضحاها، بل هي تراكم سنوات من الغفلة وسوء التخطيط، الغفلة عن إدراك المشكلة قبل أن تقع، وسوء الخطيط حتما يتحمل قدرا من هذه المشكلة.
في سنوات ما قبل الطفرة كانت الاستعانة بالمعلم العربي قائمة، وكانت الجودة ملموسة، وكانت مخرجات التعليم فاعلة. مع الطفرة بدأت مسيرة التوظيف العشوائي دون أن يكون هناك مراقبة للجودة، بل حشد مئات المعلمين وتوجيههم لمدارسهم وهم فقراء مهنيا ومعرفيا. كان الشرط الأوحد للتوظيف الحصول على مؤهل جامعي أو ما يعادله فقط دون أن يكون هناك اختبارات مهنية ونفسية وتربوية للمعلمين المتقدمين لوظائف التعليم. فدخل لسلك التعليم من لا يصلح للتعليم أبدا، فبعيدا عن التأهيل المعرفي والتربوي يأتي الاستعداد النفسي في مقدمة شروط صلاحية التوظيف في مهنة معلم. ولتجاهل هذه الاعتبارات المهمة اكتظت المدرس بمعلمين لا يصلحون للمهنة ذات الحساسية الاستثنائية. وليس غريبا ومن باب السخرية أن يشيع بين الناس مقولة (من لا عمل له فليكن معلما). المشكلة أن الوزارة كانت ترى تردي وضع الكثير من المعلمين ومع ذلك كانت لا تمانع في استقطاب المزيد منهم.
جزء من مشكلة المعلم تتحمله وزارة التربية والتعليم التي أشرفت على تعليم بعض معلميها في معاهد إعداد المعلمين، ثم الكليات المتوسطة، وأخيرا كليات المعلمين قبل أن تنضم إلى وزارة التعليم العالي. هذه القنوات التعليمية عجزت عن إعداد معلم كفؤ، فلماذا تشتكي الوزارة الآن؟ّ! هل الخلل في مناهج هذه الكليات التي لم ترق لتكوين معلم متمكن؟! أم الخلل في التخطيط أصلا لهذه المعاهد والكليات؟ وقد كان الأحرى توفير الأموال المبذولة طالما أنها أنتجت معلمين غير أكفاء معنويا ومعرفيا؟!
أما الجزء الآخر من المشكلة، فهو استيعاب مئات الخريجين من كليات الآداب غير التربوية دون تأهيلهم تربويا للعمل مباشرة في مدارسها. هذه الخطوة لم تكن إلا حالة من حالات تردي الاستراتيجية التعليمية. ومن ينظر لهذه التجربة في التوظيف يشعر كأن وزارة التربية والتعليم كانت مسؤولة عن حل مشكلة البطالة حتى بلغ منسوبوها ما يزيد على نصف موظفي الدولة. المهم كثرة كغثاء السيل، والضحية مسيرة التعليم في المملكة..
في خضم هذا القلق المتنامي من تدهور التعليم، كانت الوزارة تجرب الحلول، فمرة انصبت جهودها على تطوير المناهج، فغيرت دون أن تقنع، وسعت إلى بناء مدارس لكن تغطية الاحتياج يفوق كل الخطط نتيجة لإهمال متراكم، فقط أخيرا التفتت الوزارة للعنصر الأهم في تجربة التعليم وهو المعلم. وفي تصوري لم يغب عن الوزارة جوهر المشكلة منذ البدء، غير أن البعد الإنساني في هذه المسألة ربما جعلها تؤجل حتى لم يعد هناك أي مخرج تتسلل منه الوزارة لغيره من المشكلات.
أعتقد أن مقدمة الحل هو إقرار الوزارة بالمشكلة. وهذا الإقرار متأخر جدا، لكن من باب التفاؤل نقول ما يأتي متأخرا أفضل من أن لا يأتي أبدا. ما هي ملامح الحل؟ اعتمدت الوزارة على اختبار قدرات لغربلة من يصلح للتعليم. ورغم حيادية هذا الاختبار فإنه لا يجيب على المعضلات الشخصية في تكوين المعلم، مثل حالته الذهنية والنفسية واستعداده التربوي، وعليه أعتقد من الضروري إجراء مقابلات شخصية جادة، والعرض على تربويين وأطباء نفسانيين للتأكد من الملاءة لمهنة التعليم الحساسة.
الجزء الآخر من المشكلة والأصعب هو معالجة مشكلة بعض المعلمين القائمين، أولا بإعادة تأهيلهم بشكل جاد حتى لو اقتضى الأمر إعادتهم للتدريب التربوي مرة أخرى، كما يمكن لمن عجز عن اجتياز التقييم أن تنهى خدماته ويعطى شيكا ذهبيا عن بقية خدمته. وهي تجربة حصلت في القطاع الخاص وأثبتت نجاحها إلى حد كبير، ذلك أن الإصلاح في الغالب غير مريح وغير مرضي عنه، لكن الغايات النبيلة تبرر قسوة الوسائل أحيانا.
halnemi@gmail.com
في حالة البيئة المدرسية تبدو الأمور أسهل نسبيا في التعاطي معها ومقاربة حلها، ذلك أنها أمر مادي يمكن العمل عليه والتغلب على الصعوبات المختلفة.
أما مشكلة المعلم فهي معقدة جدا لأنها إنسانية في المقام الأول. لنبدأ في فحص أبعاد هذه المشكلة وتاريخ نشأتها. بالتأكيد مشكلة المعلم لم تنشأ بين عشية وضحاها، بل هي تراكم سنوات من الغفلة وسوء التخطيط، الغفلة عن إدراك المشكلة قبل أن تقع، وسوء الخطيط حتما يتحمل قدرا من هذه المشكلة.
في سنوات ما قبل الطفرة كانت الاستعانة بالمعلم العربي قائمة، وكانت الجودة ملموسة، وكانت مخرجات التعليم فاعلة. مع الطفرة بدأت مسيرة التوظيف العشوائي دون أن يكون هناك مراقبة للجودة، بل حشد مئات المعلمين وتوجيههم لمدارسهم وهم فقراء مهنيا ومعرفيا. كان الشرط الأوحد للتوظيف الحصول على مؤهل جامعي أو ما يعادله فقط دون أن يكون هناك اختبارات مهنية ونفسية وتربوية للمعلمين المتقدمين لوظائف التعليم. فدخل لسلك التعليم من لا يصلح للتعليم أبدا، فبعيدا عن التأهيل المعرفي والتربوي يأتي الاستعداد النفسي في مقدمة شروط صلاحية التوظيف في مهنة معلم. ولتجاهل هذه الاعتبارات المهمة اكتظت المدرس بمعلمين لا يصلحون للمهنة ذات الحساسية الاستثنائية. وليس غريبا ومن باب السخرية أن يشيع بين الناس مقولة (من لا عمل له فليكن معلما). المشكلة أن الوزارة كانت ترى تردي وضع الكثير من المعلمين ومع ذلك كانت لا تمانع في استقطاب المزيد منهم.
جزء من مشكلة المعلم تتحمله وزارة التربية والتعليم التي أشرفت على تعليم بعض معلميها في معاهد إعداد المعلمين، ثم الكليات المتوسطة، وأخيرا كليات المعلمين قبل أن تنضم إلى وزارة التعليم العالي. هذه القنوات التعليمية عجزت عن إعداد معلم كفؤ، فلماذا تشتكي الوزارة الآن؟ّ! هل الخلل في مناهج هذه الكليات التي لم ترق لتكوين معلم متمكن؟! أم الخلل في التخطيط أصلا لهذه المعاهد والكليات؟ وقد كان الأحرى توفير الأموال المبذولة طالما أنها أنتجت معلمين غير أكفاء معنويا ومعرفيا؟!
أما الجزء الآخر من المشكلة، فهو استيعاب مئات الخريجين من كليات الآداب غير التربوية دون تأهيلهم تربويا للعمل مباشرة في مدارسها. هذه الخطوة لم تكن إلا حالة من حالات تردي الاستراتيجية التعليمية. ومن ينظر لهذه التجربة في التوظيف يشعر كأن وزارة التربية والتعليم كانت مسؤولة عن حل مشكلة البطالة حتى بلغ منسوبوها ما يزيد على نصف موظفي الدولة. المهم كثرة كغثاء السيل، والضحية مسيرة التعليم في المملكة..
في خضم هذا القلق المتنامي من تدهور التعليم، كانت الوزارة تجرب الحلول، فمرة انصبت جهودها على تطوير المناهج، فغيرت دون أن تقنع، وسعت إلى بناء مدارس لكن تغطية الاحتياج يفوق كل الخطط نتيجة لإهمال متراكم، فقط أخيرا التفتت الوزارة للعنصر الأهم في تجربة التعليم وهو المعلم. وفي تصوري لم يغب عن الوزارة جوهر المشكلة منذ البدء، غير أن البعد الإنساني في هذه المسألة ربما جعلها تؤجل حتى لم يعد هناك أي مخرج تتسلل منه الوزارة لغيره من المشكلات.
أعتقد أن مقدمة الحل هو إقرار الوزارة بالمشكلة. وهذا الإقرار متأخر جدا، لكن من باب التفاؤل نقول ما يأتي متأخرا أفضل من أن لا يأتي أبدا. ما هي ملامح الحل؟ اعتمدت الوزارة على اختبار قدرات لغربلة من يصلح للتعليم. ورغم حيادية هذا الاختبار فإنه لا يجيب على المعضلات الشخصية في تكوين المعلم، مثل حالته الذهنية والنفسية واستعداده التربوي، وعليه أعتقد من الضروري إجراء مقابلات شخصية جادة، والعرض على تربويين وأطباء نفسانيين للتأكد من الملاءة لمهنة التعليم الحساسة.
الجزء الآخر من المشكلة والأصعب هو معالجة مشكلة بعض المعلمين القائمين، أولا بإعادة تأهيلهم بشكل جاد حتى لو اقتضى الأمر إعادتهم للتدريب التربوي مرة أخرى، كما يمكن لمن عجز عن اجتياز التقييم أن تنهى خدماته ويعطى شيكا ذهبيا عن بقية خدمته. وهي تجربة حصلت في القطاع الخاص وأثبتت نجاحها إلى حد كبير، ذلك أن الإصلاح في الغالب غير مريح وغير مرضي عنه، لكن الغايات النبيلة تبرر قسوة الوسائل أحيانا.
halnemi@gmail.com