-A +A
علي الدميني
عبر إحدى تجليات الحداثة (في بعدها العلمي والتقني) تبرز فاعلية «الانترنت» في لعب دورين متعارضين ومتلازمين في آن واحد، هما التواصل والقطيعة.
ذلك أن «الانترنت « (وأشباهه كالفضائيات والجوال والبلوتوث، ..) قد تمكن من إحداث اختراق، لا مرد له، للحدود الجغرافية، والسياسية، والمعرفية، وما تواضعت عليه المجتمعات من خصوصيات وطنية، أو اجتماعية، أو فردية، وغدت معه تلك الوسائط، «كاسحة» متقدمة لاجتثاث العراقيل البيروقراطية (فردية كانت أو مؤسسية) بإسهامها في تيسير عملية التواصل البشري بين الأفراد والشعوب من جهة، وقيامها بدور غير مبرمج من الجهة الأخرى، في صياغة منظومة أعراف وقيم جديدة، تخدم بالنتيجة، توجهات الأقوياء وسعيهم إلى عولمة الثقافة، والسياسة، وكافة تفاصيل الحياة.

ومن مفارقات هذه التقنية الخفية، أنها قد عززت آفاق الاطلاع على المعلومة المتاحة على مواقعها، والمرتبطة بمنجز الحاضر المعرفي، وهيأت بذلك إمكانات تحقق «فردية « الإنسان، واستقلالية وحرية خياراته في البحث عن ما يروق له، كما رصفت الطريق أمامه للتواصل مع الأفراد والمجموعات البشرية في كل شبر من أصقاع العالم.
وبالتوازي مع هذا الدور التواصلي بالغ الأهمية، فإنها قد أنجزت عمليات تفتيت وتذرية واسعة لمقومات حميمية العلاقات الاجتماعية في بعديها الأسري والاجتماعي الشامل. ففي المنزل الواحد، يتواصل الزوجان وابناؤهما بالجوال أو « الإيميل»، كما يستعيض الأقرباء والأصدقاء بنفس الوسائل عن اللقاءات والزيارات الشخصية، وكم هزتني رسالة تهنئة بعيد الفطر السعيد وصلتني في منتصف شهر رمضان مذيلة بالقول» أرجو أن تسمح لي بالبقاء في جوالك حتى صباح العيد، لكي تتذكر أنني أول من هنأك بالعيد»!!
ذلك بعد من أبعاد الوصل والفصل، والتواصل والانقطاع، الذي يؤسس لتخلق قيم سلوك اجتماعية وثقافية مغايرة، تتسم بصفات القطيعة الكاملة مع مواضعات ما ألفناه في الماضي القريب،
أما الملمح الثاني الذي سأورده هنا، للتأمل في منحى التواصل والقطيعة الذي رسمته لنا وسائط التقنية الحديثة، أو ذهبت إلى حد إكراهنا على التعاطي معه، فإنه يتعلق بمفارقة ما منحته لنا من إمكانات للوصول إلى المعلومة (المعرفة) المعاصرة، بينما دفعتنا بإغواء مذهل صوب القطيعة مع المعلومة الأقل معاصرة أو الأكثر قدماً في الزمن .
والقطيعة التي أشير إليها هنا، تشير إلى القطيعة المعرفية مع أمهات الكتب والمراجع ووسائل البحث عن المعرفة في مضانها الأصلية وفي سياقاتها التاريخية .
فحين يحتاج أحدنا للرجوع إلى موضوع ما أو فكرة معينة كالتصوف، أو التعددية، أو صراع ابن رشد والغزالي حول الفلسفة، أو أهم مفاهيم الديمقراطية، أو المجتمع المدني، ..الخ، فإنه غالباً ما كان يجدها مخبأة في ثنايا « كتاب»، وبتصفح ذلك الكتاب ينفتح أمامنا سياق منهجي إلى حد ما لرؤية أوسع من تلك الفكرة المحدودة، وفي هذا المعنى نقوم باستعراض سريع لأهم مرتكزات نمو الفكرة، وتبلورها . كما أن عملية التصفح بحد ذاتها تعيننا على استذكار أو إعادة الاطلاع على أهم المحطات المهمة في سيرورة الفكرة المبثوثة في «الكتاب»، وبالتالي فإننا نعمل على اغناء وجهة نظرنا الأحادية المسبقة، كما ينفتح الباب أمام تأملات وتعارضات مهمة، من شأنها اغناء وجهة النظر، وتعميق منحى الاستفادة من الاستشهاد.
أما اليوم، وضمن زمن ثقافة الاختزال، وثقافة « السندويتش» وسرعة إيقاع الحياة، فإننا نذهب ببساطة إلى مواقع «الانترنت « لنبحث فيها على عجل، ونقرأ على عجل، ما يتيسر حول ذلك العنوان أو المعلومة وندخل في فاعلية القطيعة!
لا أحد ينكر أن معلومة الانترنت طازجة، ومعاصرة، ولكنها في الجانب الثقافي والفكري، معلومات مبتسرة، ومقالات مختزلة، لا يزيد أكثرها عمراً عن عشرة أعوام، وهي خلاصات عمياء لا تغني كاتبا جاداً عن العودة إلى الأصل المفقود، الأصل المغيب في الكتب والمراجع والمكتابات، ولا قبل لعصر السرعة أن يعيد طباعة كل تلك المؤلفات على شبكاته، ناهيك عن الفرق بين قراءة التعرف السريعة على شاشة الكمبيوتر، وتلك القراءة المجادلة والمتأملة عبر صفحات الكتب.
لم أرد من هذه الكلمات هجاء زمن الانترنت وعولمة الثقافة، وغياب حميمية العلاقات البشرية،لان الهجاء وحده لا يخفف من أثر واقع معاش، ولكنني أردت التأمل فيما يلي:
أنجز «الانترنت ووسائط الاتصال» ما لم تستطع الحداثة الفكرية والسياسية انجازه خلال القرنين الماضيين، من اختراق للتابوهات العديدة، وتجسير عملية التواصل بين البشر، بمعزل عن مواطنهم ومنحدراتهم، كما قام من الجهة الأخرى بتحقيق فعل « القطيعة» -التي كانت إحدى مرتكزات مفاهيم الحداثة - مع الأنماط الإبداعية والأنساق الثقافية القديمة. وحيث أن الواقع أثبت أن الأجيال الحديثة تتفاعل مع هذه الآليات، فهل يمكننا أن نقول بأن مفارقة التواصل والقطيعة هي سمة مجتمع عصر جديد يتخلّق باحثاً عن تراثه في ذاته وعن معرفته في حاضره وحسب، وأنه عالم مغاير لكل ما عرفته البشرية من ثقافات وهويات وتمايزات، وأنه لم يعد بحاجة لدفء العائلة والأقارب كما لم يعد مهتما بالماضي ولا صيروراته الاجتماعية والمعرفية، فقد اتجه ببصره صوب المستقبل وحسب؟
ذلك هوالسؤال!!
alialdumaini@yahoo.com