تنظيف الحي المجاور كان مهمة يوم النظافة المدرسي. الأزقة مفروشة بالرملة الحمراء وقد رشت بالماء وتنبعث منها برودة يحس بها رغم حرارة الظهيرة ورياح السموم. المنازل مبنية بالحجر ومزينة بالرواشين الخشبية في تناغم معماري له خصوصية الطقس والمكان والعادات. البيوت تكاد تتماثل من الخارج وحتى في مفروشات الداخل. يسمع وزملاؤه لهجة مرحبة «الله يسعدكم .. الله يحميكم». يفتح أحد الابواب ويخرج منه ماء «شربة» بارد بطعم ورد المدينة ورائحة بخور المستكة. نظافة الأزقة تحول مهمته وزملائه إلى مجرد نزهة. من باب آخر يخرج الشاي المطعم بنعناع المدينة ونكهة السماور.
يعود اليوم إلى ذات المكان فلا يجد تلك الأزقة، أصبحت شارعا يعاني من أمراض شتى. غطت الاتربة والمخلفات سواد اسفلت ينبعث منه وهج حرارة تصل للأقدام. اختفت الرملة الحمراء مثلما اختفت البيوت الحجرية المزينة بالرواشين وحل مكانها بيوت اسمنتية ليس لها معالم، وتدفعه للشك بأن من صممها ليس له أي علاقة بهندسة العمران. اختفت رائحة بخور المستكة وأوصدت جميع الأبواب. يسمع لهجات ولغات ليس منها تلك اللهجة المحببة المرحبة. تلفح وجهه حرارة رياح سموم وتتساقط عليه قطرات ماء مكيف صدئ.
يتذكر جلوسه أمام التلفزيون الأبيض والأسود وقناة وحيدة تبدأ بعد صلاة العصر حتى موجز الأخبار قبل منتصف الليل. الشيخ علي الطنطاوي يتحدث وابتسامة تغطي محياه، سميرة توفيق تغني
« بلله تصبوها القهوة» . تحت السماء على السطح ينتعش ببرودة الفراش وتحميه «الناموسية». يستيقظ على صوت أبيه ليصحبه وإخوته لصلاة الفجر في المسجد، وفي طريق عودته لا يتوقف لسانه عن رد السلام على أوجه مبتسمة باشة مرحبة يعرفها.
يتذكر موسم الحج وغياب كثير من رفقاء الصف، فمنهم من يساعد أباه في الدكان أو في خدمة الحجاج ومنهم من يساعد في إيجار الدار الصغيرة التي لجأت مالكتها الأرملة وأبناؤها إلى الطابق الأعلى وأخلت الطبقات السفلى لتؤجرها للحجاج وتقتات الأسرة بقية العام من دخل الإيجار. يتساءل: ما حل بها وقد أزيلت الدار وحل مكانها مع مئات من بيوت مشابهة عمارات شاهقة لا تعود ملكيتها لها أو لأقرانها وجيرانها ولكن أصبحت تعود لكبار أصحاب الأموال فقط، وقد غطت الحرم فلم يعد القادم إلى المدينة المنورة من كل أطرافها تسعد نفسه برؤية الحرم ومآذنه لتبشره بأنه وصل لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. بعدت كما بعد كل جيرانها بسكنها إلى أقاصي المدينة ولم يعد مسكنها ــ أو مساكنهم ــ يغري لإقامة الحجاج.
مجتمع متكافل متصالح مع نفسه، دينه جزء من طبيعته لا يوجد فيه من يرى نفسه أكثر إدراكا بالمعروف. مجتمع متوازن طبقيا لا يعاني من حسد تفاوت في موارد مالية. مجتمع لا يعرف ماذا تعني كلمة عنصرية أو تمايز، الاحترام للعلم والسن لا للمال والنفوذ. يتساءل: لماذا تغير المجتمع كما تغيرت معالم المدينة المنورة. أزيلت المدينة القديمة بأحيائها وأزقتها ومعالمها كجزء من تطوير لم يستسغ عبق التاريخ، لم يتبق من معالم عمران المدينة المنورة التى عرفها سوى مبنى محطة قطار على مدخل المدينة وبضعة مساجد ونخيل لم يتبق من مزارعه إلا القليل..
لكن مهما اختلفت الوجوه ومعالم العمران تبقى تلك الطمأنينة والروحانية التي لا يحس بها إلا في المدينة المنورة.. صلى الله على ساكنها سيد البشر محمد وسلم وأكرمنا بشفاعته.
يعود اليوم إلى ذات المكان فلا يجد تلك الأزقة، أصبحت شارعا يعاني من أمراض شتى. غطت الاتربة والمخلفات سواد اسفلت ينبعث منه وهج حرارة تصل للأقدام. اختفت الرملة الحمراء مثلما اختفت البيوت الحجرية المزينة بالرواشين وحل مكانها بيوت اسمنتية ليس لها معالم، وتدفعه للشك بأن من صممها ليس له أي علاقة بهندسة العمران. اختفت رائحة بخور المستكة وأوصدت جميع الأبواب. يسمع لهجات ولغات ليس منها تلك اللهجة المحببة المرحبة. تلفح وجهه حرارة رياح سموم وتتساقط عليه قطرات ماء مكيف صدئ.
يتذكر جلوسه أمام التلفزيون الأبيض والأسود وقناة وحيدة تبدأ بعد صلاة العصر حتى موجز الأخبار قبل منتصف الليل. الشيخ علي الطنطاوي يتحدث وابتسامة تغطي محياه، سميرة توفيق تغني
« بلله تصبوها القهوة» . تحت السماء على السطح ينتعش ببرودة الفراش وتحميه «الناموسية». يستيقظ على صوت أبيه ليصحبه وإخوته لصلاة الفجر في المسجد، وفي طريق عودته لا يتوقف لسانه عن رد السلام على أوجه مبتسمة باشة مرحبة يعرفها.
يتذكر موسم الحج وغياب كثير من رفقاء الصف، فمنهم من يساعد أباه في الدكان أو في خدمة الحجاج ومنهم من يساعد في إيجار الدار الصغيرة التي لجأت مالكتها الأرملة وأبناؤها إلى الطابق الأعلى وأخلت الطبقات السفلى لتؤجرها للحجاج وتقتات الأسرة بقية العام من دخل الإيجار. يتساءل: ما حل بها وقد أزيلت الدار وحل مكانها مع مئات من بيوت مشابهة عمارات شاهقة لا تعود ملكيتها لها أو لأقرانها وجيرانها ولكن أصبحت تعود لكبار أصحاب الأموال فقط، وقد غطت الحرم فلم يعد القادم إلى المدينة المنورة من كل أطرافها تسعد نفسه برؤية الحرم ومآذنه لتبشره بأنه وصل لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. بعدت كما بعد كل جيرانها بسكنها إلى أقاصي المدينة ولم يعد مسكنها ــ أو مساكنهم ــ يغري لإقامة الحجاج.
مجتمع متكافل متصالح مع نفسه، دينه جزء من طبيعته لا يوجد فيه من يرى نفسه أكثر إدراكا بالمعروف. مجتمع متوازن طبقيا لا يعاني من حسد تفاوت في موارد مالية. مجتمع لا يعرف ماذا تعني كلمة عنصرية أو تمايز، الاحترام للعلم والسن لا للمال والنفوذ. يتساءل: لماذا تغير المجتمع كما تغيرت معالم المدينة المنورة. أزيلت المدينة القديمة بأحيائها وأزقتها ومعالمها كجزء من تطوير لم يستسغ عبق التاريخ، لم يتبق من معالم عمران المدينة المنورة التى عرفها سوى مبنى محطة قطار على مدخل المدينة وبضعة مساجد ونخيل لم يتبق من مزارعه إلا القليل..
لكن مهما اختلفت الوجوه ومعالم العمران تبقى تلك الطمأنينة والروحانية التي لا يحس بها إلا في المدينة المنورة.. صلى الله على ساكنها سيد البشر محمد وسلم وأكرمنا بشفاعته.