الجيل الذي تابع مسلسل صح النوم لغوار الطوشة لا بد أن يتذكر هذا القول: (إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا .. يجب أن نعرف ماذا في البرازيل؟!)، وربما يتبسم لذكريات حميمة هي من بقايا الزمن الجميل. كنا ننتظر معرفة الإجابة لهذا السؤال الذي يردده حسني البرزان، لكن غوار دائما يقطع عليه الوصول للإجابة. وكنت في داخلي أرجو أن نصل لإجابة عن هذا السؤال الافتراضي الذي لا علاقة له بواقعنا العربي.
وبرؤيتي الآن أجد أن المسلسل قد نجح في الإيحاء بعدم القدرة على فهم الواقع طالما كانت المقدمات خاطئة والأسئلة اعتباطية.
العلاقة بين المثقف والواقع هي ذاتها العلاقة بين حسني البرزان وغوار، علاقة تنافر لا تلاق، علاقة العيش في مكان واحد تحت بند الضرورة. والمثقف هنا هم النخب الدينية والفكرية التي تتنازع زعامة المجتمع، لكن كلها تستخدم المجتمع، كل لأهدافه الخاصة. النخب تصعد موقفها، وتبني تصوراتها على أسئلة فرضية ومقدمات استعلائية، وإجابات محسومة سلفا. بينما المجتمع ينحاز مرة لهذه النخبة ومرة لتلك. ولا يدري مخرجا إلا تكرار الدوران حول عالم النخب الاستعلائي.
ومثلما فشل حسني البرزان في إيصال رسالته البعيدة عن هموم الناس، فشلت النخب في بناء جسور تلاق مع مجتمعها. أما المجتمع بمكوناته المختلفة فقد تحول لأكبر ساخر في عالمنا العربي، بل لقد تفوق على المجتمع المصري المشهود له بالنكتة المعبرة عن سوء واقعه. ولأننا أمة لا ذاكرة لها أحيانا، فقد نسينا أن السخرية بدأت معالمها تظهر منذ سنوات قليلة عندما تفضلت إحدى شركات الاتصالات بمنح المجتمع فرصة تبادل رسائل sms مجانا لمدة شهر. والنتيجة أن المجتمع أشهر أسنة السخرية من نخبه الزائفة، وجأر بشكواه ومرارته بسخرية لاذعة، ولم يبق أحد إلا ودون مصائبه بسخرية مريرية. هل قرأت النخبة هذه المرحلة؟! بالطبع لا. فليس من عادتها الاستجابة لنبض الناس وتفهم مشكلاتهم. فحسني البرزان يحضر دائما عند كل مصيبة محلقا في فضاء بعيد عما يجري في واقعه.
ولأن النخب معزولة عن سياقها، فإن المجتمع، وهو دون وجود سياق يجمعه، اتخذ من وسائل التواصل الحديثة (تويتر، كييك، يوتيوب، فيس بوك) منبره الذي وجد فيه خير معين له على تقديم وجهة نظره، ومناقشة نخب المجتمع، بل وفرض وجهة نظره. هذه الخطوة حققت قدرا من التنفيس، لكنها لم تلب الاحتياجات الضرورية للمجتمع، ومنها الجانب الخدماتي. فماتزال النخب ترى إمكانية استرضاء المجتمع دون الدخول بشكل جدي في معالجة مشكلاته..
وللاستشهاد بتخبط النخب في معالجة مشكلات المجتمع ومقاربتها. تحضر قيادة المرأة للسيارة بوصفها إحدى مشكلات التنازع بين هذه النخب (الدينية والفكرية). فكل ينظر للمسألة من زاويته ومدى مكاسبه وخسائره من التعاطي مع هذه القضية الاجتماعية. النخب تفكر بما يقع في إيطاليا والبرازيل ولا تفكر في الأضرار الواقعة على المجتمع. النخب تفكر نيابة عن المجتمع في كل محفل ومناسبة دون أن تسترشد برأي الناس، حتى مجلس الشورى الذي يجمع طيف هذه النخب أبى واستكبر أن يناقش قضية قيادة المرأة للسيارة. لم تفكر هذه النخب للاجتماع على كلمة سواء حول أي قضية جدلية، ومنها قيادة المرأة للسيارة لأن ليس من مصلحتها الالتقاء، فذلك قد يزعزع مكاسبها. المخرج الوحيد هو طرح هذه القضية وغيرها من القضايا الجدلية لاستفتاء عام نزيه، والرأي السائد في هذه القضية يسود. وهنا فقط يتم إخلاء مسؤولية النخب من وزر هذه القضية التي أخذت مدى طويلا وكلفت المجتمع خسائر مادية ومعنوية لا تقدر بثمن، والسبب تجبر النخب وتعنتها في قضية لا غبار عليها من الناحية الدينية، المشكلة دائما في مداولة القضية بعيدا عن المجتمع المعني بها. النيابة والوصاية عن وعلى المجتمع لم تعد مجدية، وإذا لم تستجب النخب فسيتم عزلها مثل ما تم عزل حسني البرزان ووضعه في دائرة السؤال الذي لا جواب له، وهو عقاب ما بعده عقاب.
halnemi@gmail.com
وبرؤيتي الآن أجد أن المسلسل قد نجح في الإيحاء بعدم القدرة على فهم الواقع طالما كانت المقدمات خاطئة والأسئلة اعتباطية.
العلاقة بين المثقف والواقع هي ذاتها العلاقة بين حسني البرزان وغوار، علاقة تنافر لا تلاق، علاقة العيش في مكان واحد تحت بند الضرورة. والمثقف هنا هم النخب الدينية والفكرية التي تتنازع زعامة المجتمع، لكن كلها تستخدم المجتمع، كل لأهدافه الخاصة. النخب تصعد موقفها، وتبني تصوراتها على أسئلة فرضية ومقدمات استعلائية، وإجابات محسومة سلفا. بينما المجتمع ينحاز مرة لهذه النخبة ومرة لتلك. ولا يدري مخرجا إلا تكرار الدوران حول عالم النخب الاستعلائي.
ومثلما فشل حسني البرزان في إيصال رسالته البعيدة عن هموم الناس، فشلت النخب في بناء جسور تلاق مع مجتمعها. أما المجتمع بمكوناته المختلفة فقد تحول لأكبر ساخر في عالمنا العربي، بل لقد تفوق على المجتمع المصري المشهود له بالنكتة المعبرة عن سوء واقعه. ولأننا أمة لا ذاكرة لها أحيانا، فقد نسينا أن السخرية بدأت معالمها تظهر منذ سنوات قليلة عندما تفضلت إحدى شركات الاتصالات بمنح المجتمع فرصة تبادل رسائل sms مجانا لمدة شهر. والنتيجة أن المجتمع أشهر أسنة السخرية من نخبه الزائفة، وجأر بشكواه ومرارته بسخرية لاذعة، ولم يبق أحد إلا ودون مصائبه بسخرية مريرية. هل قرأت النخبة هذه المرحلة؟! بالطبع لا. فليس من عادتها الاستجابة لنبض الناس وتفهم مشكلاتهم. فحسني البرزان يحضر دائما عند كل مصيبة محلقا في فضاء بعيد عما يجري في واقعه.
ولأن النخب معزولة عن سياقها، فإن المجتمع، وهو دون وجود سياق يجمعه، اتخذ من وسائل التواصل الحديثة (تويتر، كييك، يوتيوب، فيس بوك) منبره الذي وجد فيه خير معين له على تقديم وجهة نظره، ومناقشة نخب المجتمع، بل وفرض وجهة نظره. هذه الخطوة حققت قدرا من التنفيس، لكنها لم تلب الاحتياجات الضرورية للمجتمع، ومنها الجانب الخدماتي. فماتزال النخب ترى إمكانية استرضاء المجتمع دون الدخول بشكل جدي في معالجة مشكلاته..
وللاستشهاد بتخبط النخب في معالجة مشكلات المجتمع ومقاربتها. تحضر قيادة المرأة للسيارة بوصفها إحدى مشكلات التنازع بين هذه النخب (الدينية والفكرية). فكل ينظر للمسألة من زاويته ومدى مكاسبه وخسائره من التعاطي مع هذه القضية الاجتماعية. النخب تفكر بما يقع في إيطاليا والبرازيل ولا تفكر في الأضرار الواقعة على المجتمع. النخب تفكر نيابة عن المجتمع في كل محفل ومناسبة دون أن تسترشد برأي الناس، حتى مجلس الشورى الذي يجمع طيف هذه النخب أبى واستكبر أن يناقش قضية قيادة المرأة للسيارة. لم تفكر هذه النخب للاجتماع على كلمة سواء حول أي قضية جدلية، ومنها قيادة المرأة للسيارة لأن ليس من مصلحتها الالتقاء، فذلك قد يزعزع مكاسبها. المخرج الوحيد هو طرح هذه القضية وغيرها من القضايا الجدلية لاستفتاء عام نزيه، والرأي السائد في هذه القضية يسود. وهنا فقط يتم إخلاء مسؤولية النخب من وزر هذه القضية التي أخذت مدى طويلا وكلفت المجتمع خسائر مادية ومعنوية لا تقدر بثمن، والسبب تجبر النخب وتعنتها في قضية لا غبار عليها من الناحية الدينية، المشكلة دائما في مداولة القضية بعيدا عن المجتمع المعني بها. النيابة والوصاية عن وعلى المجتمع لم تعد مجدية، وإذا لم تستجب النخب فسيتم عزلها مثل ما تم عزل حسني البرزان ووضعه في دائرة السؤال الذي لا جواب له، وهو عقاب ما بعده عقاب.
halnemi@gmail.com