-A +A
أميرة كشغري
أشبعتنا الطائفية بغضا وكراهية، وملأنا الفساد إحباطا وجشعا ووحشية. «كورونا» يهددنا، وريهام تبكينا. سوريا شريط دم يتواصل دون فواصل. لبنان تشكو. مصر تئن. تونس تبكي. وليبيا ليست ببعيدة عن مآسينا.
تتقاذف مسامعي وتتواصل قراءاتي دون استقرار. ولأول مرة أجد أحرفي مبعثرة تبحث عن معنى، وأفكاري مشتتة تبحث عن مبنى. هل أكتب عن الحروب والدمار في العالم العربي؟ هل أكتب عن نار الطائفية المشتعلة؟ قتل وحصار، تعذيب ودمار، وحروب أهلية تندلع تحت القصف والحصار والنار. تلكم هي المشاهد المقيتة على مدار الساعة تزداد ألما لتزيدنا آلاما في عالم يئن من وطأة البشر في كل بقاع الأرض. فالحروب والقتال لا تفرق بين صغير وكبير، ولا تستثني فقيرا أو غنيا.

بين هذا الركام النفسي والجسدي أجد نفسي منجذبة بين التاريخ الماضي والحاضر لأقلب صفحات الحروب العالمية ومجازر القتلة من دكتاتور ألمانيا النازي هتلر، لجلاد البوسنة الصربي، ومضطهدي مسلمي ميانمار، وقتلة الإنسان في عالمنا العربي الحديث في فلسطين وسوريا.
يخبرنا التاريخ عن مجازر ارتكبها الإنسان في حق أخيه الإنسان لأسباب طائفية ودينية، وليس أبشع من الدافع الديني الطائفي حينما يكون محركا للقتل والحرب. كما يخبرنا التاريخ بأن الإنسان الذي خلق لعمارة الأرض هو أكثر مخلوقات الله تدميرا لهذه الأرض ونشرا للفساد والقتل فيها. فديكتاتور ألمانيا النازية أدولف هتلر حول بلده إلى آلة عسكرية جبارة وتسبب في اندلاع الحرب العالمية الثانية في سنة 1939، حيث احتلت قواته معظم أوروبا قبل هزيمتها في سنة 1945.
نشر الموت كما لم يفعل من قبله بشر في التاريخ الحديث، إذ أمر بإعدام عشرات الآلاف من معارضيه، وكان لا أخلاقيا، ويؤمن بأن القوي يفوز على الدوام، وأن الهزيمة مكتوبة على الضعيف. كان يؤمن بضرورة إبادة الأجناس العرقية التي اعتبرها متدنية، ومنها الساميون والزنوج والسلاف، وقد أباد الملايين من أبناء تلك الشعوب لينتهي بتدمير بلده وانتحاره في مخبئه الذي أقامه تحت مبنى مستشارية الرايخ في برلين.
وليس ببعيد كانت حروب الإبادة والتطهير العرقي التي ارتكبها سفاح صربيا رادوفان كاراديتش وقائد جيشه راتكو ميلاديتش ضد مسلمي البوسنة والهرسك عام 1992ــ 1995، حيث اقترفت أعمال تصفية جسدية وقتل متعمد وعمليات قمع وترحيل وأفعال لا إنسانية وجرائم ضد مسلمي البوسنة وغيرهم من المدنيين من غير الصرب في البوسنة والهرسك وقتل فيها أكثر من 250 ألف مسلم. انتهت الحرب وقبض على السفاحين وقدموا للمحاكمة في محكمة العدل الدولية.
واليوم، يتجدد المشهد الدموي في سوريا، وتتكرر حرب الإبادة الطائفية والمذابح الأهلية تحت الحصار والنار. أكباد تلاك وقلوب تطحن على وقع الطائفة والمذهب، فهل نحن نشهد بوسنة أخرى في العالم العربي؟، أم أنها حروب القرن الواحد والعشرين تشن بأسلوب الحروب القروسطية، وجرائم إبادة جماعية ضد الإنسان بسبب الدين أو العرق أو احتكار المصادر؟
تظل شعارات التسامح والتعايش وحقوق الإنسان ليست أكثر من حبر على ورق، وتزداد خارطة الحرب اتساعا، فتصاب مشاعرنا بالوهن، ويزداد الإنسان هشاشة في عالم الطائفية البغيض، بينما يتحول إعلامنا إلى إعلام الأزمة والغضب والتأجيج.
وبين هذا الركام الذي يزكم الأنوف والحروب التي تعركنا عرك الرحى بثفالها، ليس لنا من بد أن نتسلح بسلاح الإيمان العميق بأننا في النهاية سوف نلتفت إلى عمارة الأرض، وإلى المشترك الإنساني فينا، وإلى الجوهر الواحد المخلوق في دواخلنا. ولكن إلى أن يتحقق هذا الحلم سوف نظل في أزمة طاحنة اختلقناها بأنفسنا وبوعينا المحدود، ثم ما لبثنا أن جعلنا من تلك الأزمة محور حياتنا، فاستسلمنا لمحركاتها الداخلية ولبواعثها الأنانية الذميمة، ثم طفقنا نتراقص بين رحاها، ونحصي أشأم غلمانها ونطرب للحديث المنجم.