-A +A
شتيوي الغيثي
في الكتابة عن الوضع السوري أو الحديث عنه سوف يكون من اللازم التفريق بين أمور كثيرة ومتداخلة، كون المسار انحرف كثيرا من الثورة على النظام المستبد إلى حرب أهلية وطائفية مؤلمة بكل المقاييس، لذلك نضطر للقول بأن الثورة السورية كانت ثورة شرعية على نظام مستبد. كانت شعارات الثورة حينما بدأت هي شعارات مدنية، والأحزاب التي شاركت فيها كانت أحزابا وطنية بعيدة عن أي تطرف أو طائفية أو أي شعارات يمكن أن تقسم المجتمع السوري إلى كيانات مختلفة.
نجح النظام السوري في إشكالها بالطائفية حينما ضاقت به السبل. في الوضع العربي من السهولة أن تشتعل المنطقة كلها بمشكلات الطائفية والتحزب والتنافر المذهبي، ولذلك سهل على النظام السوري تحويل الثورة من ثورة شعبية كانت حريصة في بداياتها على أن تمثل الشعب بكل طوائفه إلى ثورة طائفية ــ إذا صحت التسمية. كانت الثورة تضم ناسا علويين ومسيحيين ضد النظام في بدايتها. لا أعرف ما مصير هؤلاء بعد تحول الثورة إلى حرب طائفية!!

حينما استطاع النظام السوري لتحويلها إلى طائفية كانت الفصائل الجهادية من بعض الدول العربية جاهزة لدخول اللعبة. كانت تنتظر شيئا من ذلك. العراق كان وقودا ومخزنا كبيرا لتولد مثل تلك الفصائل. لم تترك سوريا للسوريين، بل تدخلت إيران بثقلها، وتدخلت بعض الدول العربية من غير تصريح بذلك. هنا ارتفعت شعارات السنة والشيعة والذبح على الهوية من قبل الطرفين بلا استثناء.
دخول المذهبية في الثورة السورية جعل الكثير من المراقبين السياسيين يحبط من انتهاء الوضع السوري إلى دولة مدنية كما كانت. الذبح على الهوية كان سيد الموقف. والتبجح في ذلك كان كبيرا. ألقى حزب الله بثقله في المعركة أيضا. تحولت المسألة إلى حرب فصائل طائفية. التطرف يقاتل بعضه. أعطى مؤتمر العلماء لنصرة سوريا شرعية لتلك الحروب الطائفية بالحث على الجهاد. قامت الدعوات من هنا وهناك للجهاد. ها هو العالم العربي يعيد سيناريو الحرب الأفغانية القديمة إلى الواجهة. الأساليب نفسها واللغة نفسها والأرض تختلف.
وكما كانت قصص كرامات المجاهدين في الأفغان تنتشر، كذلك انتشرت قصص من هنا وهناك عن الجهاد السوري. كذلك انتشرت عمليات الإعدام المصورة بالفيديو، كما انتشرت من قبل في الجهاد الأفغاني، إلا أن التقنية كانت أضعف سابقا ولم تكن كما هي الحال الآن في الوضع السوري.
الحديث عن ملاحم نهاية التاريخ يعود هو الآخر في الحديث بين الناس، وخروج المهدي من خلال إعادة إحياء بعض الأحاديث النبوية وإسقاطها على الوضع السوري حاليا، على اعتبار أن الشام هي موطن الجهاد في النص النبوي، بل تعدى الحال لتجهيز اثني عشر مجاهدا بنفس العدد المذكور في الحديث، وهو حديث: «لا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة» رغم أن هذا الحديث عند بعض أهل الحديث خاص بغزوة حنين التاريخية. هنا يتم إعادة إنتاج الملاحم القديمة بملاحم جديدة مختلفة كليا عن بداية العصر الإسلامي.
بل إن السيناريو السوري الجديد يتكرر بذات المبررات التي كانت للجهاد الأفغاني، حيث كانت الأفغان طريقا للقدس كما كانت المقولات تتكرر قبل حوالي العشرين عاما. اليوم ذات المقولة تتكرر عند البعض، فالطريق إلى القدس تبدأ من سوريا، فلا الأفغان أوصلتنا إلى القدس، وأشك كثيرا أن ستوصلنا سوريا إلى القدس، بحكم حجم المأساة والحرب الطائفية التي حصلت، والتي لن تنتهي بسهولة حتى بعد سقوط النظام، بل ستتحول إلى عراق ثانية.
التاريخ يعيد نفسه بأشكال متقاربة، وإن كانت أخذت سيناريوهات متعددة ومختلفة في شكلها وتحركها، لكنها في الأخير تسير نحو نفس الفكرة، وهنا تعود السياسة من جديد لتكون هي الفعل الفاعل في إشكال المنطقة طائفية أو حربا أهلية لمصالح سياسية تنتهي مع انتهاء الحدث، وربما تكون المواقف السياسية متغيرة تماما حسب المعطيات الجديدة، ثم نعيد مشكلات الإرهاب من جديد. هل هذا التصور فيه تجن؟ القراءة الواعية للتاريخ وللتحولات السياسية ستجعل الكثير من المنصفين يعيدون النظر في الكثير من التصريحات السياسية وفتاوى الجهاد، وما يحصل في الأرض السورية فوق التصور الذي يمكن أن يجعل الأمور واضحة تماما، لكن انحراف الثورة من ثورة وطنية إلى طائفية هي بداية الخسارة الكبرى للثورة نفسها، والدماء التي تنزف في كل الجهات لن تندمل بسهولة.