-A +A
علي الدميني
ضمن صلاحياته الحالية، يبادر مجلس الشورى في أكثر من شأن، إلى مقاربة قضايا اجتماعية واقتصادية، وثقافية، مهمة، محاولاً ممارسة دوره كمشرع مدني يعبر عن صوت المواطنين، و لذلك رأيناه يخطو نحو ملامسة قضايا ذات تماس مع واقع حياة المواطنين اليومية مثل مناقشة نظام المؤسسات والجمعيات الأهلية (مؤسسات المجتمع المدني)، ومراجعة نظام التعليم، وجمعية الأدباء، وسواها . وقد سعى في ذلك إلى وضع قوانين وأنظمة مدنية تعالج هذه القضايا، وتنقلها من فضاء التأمل والتجريد والاجتهادات الفردية المحتكرة للحقيقة أو لسلطة القرار، إلى حقيقة المدونة القانونية الملزمة لكل الأطراف، لاعتمادها كمرجعية لا يجوز الخروج عليها أو انتهاكها .
وبالرغم من خطوات المجلس الوئيدة في هذا المضمار ‘إلا أنها تعد مؤشراً على بدء حالة الخروج من مرحلة الأنين تحت وطأة أثقال مراجعة الأنظمة والقوانين التي تحيلها عليه الأجهزة الحكومية كمستشار، إلى مرحلة المبادرة لممارسة دوره (المفترض) كشريك ومعبر عن سلطة تشريعية مستقلة، في التصدي لكافة التحديات ودراستها للخروج برؤية مؤسسية ذات بعد جماعي تعددي قادر على التعاطي الخلاق مع المشكلة أو الظاهرة ، ومن ثم العمل على تقنين تداعياتها السلبية وضبطها ضمن منظومة قوانين مدونة وواضحة تحدد الحقوق والواجبات و مبادئ الشفافية والمحاسبة، والثواب والعقاب.

والمجلس بحاجة للمزيد من الصلاحيات، والمبادرات، لتدعيم مكانته كطرف مستقل لا ينحصر دوره في الاستشارة المعلمة وحسب ، ولكن في إصدار القرار الملزم، من اجل تعزيز الآخذ بآليات بناء الدولة الحديثة، ونظم الحكم الرشيد، وسيادة القانون، لتحقيق أفضل مناخ كفيل بتطبيق مبادئ العدل والمساواة والمشاركة الشعبية في صنع القرار..
ولعل في هذه الخطوات التي يقوم بها المجلس ما بين فترة وأخرى، ما يذكرنا بالتاريخ، وبالحراك الاجتماعي والفكري، والمصلحي، داخل كل مجتمع، ما بين رؤى ووجهات نظر، ومصالح تتعدد، وتتدافع، حتى تصل إلى تنازلات وتوافقات سياسية، تستدعي الاتفاق على مشتركات الحد الأدنى، من اجل الحفاظ على الأمن والاستقرار و سيادة القانون في الدولة. ولقد شهدت أوروبا قبلنا بأكثر من ثلاثمائة عام، صراعا فكريا، وسياسيا ، حول مفهوم الدولة، ومرجعية السلطة، وترشيد القرار إزاء ما ورثته من تجارب احتكار الدولة المطلق للسلطة والثروة، واختزال كل ذلك في فردية قرار البابا او الحاكم الإقطاعي.
ويُعد( جون لوك )، أول من نظّر لسلطات الدولة الثلاث، غير أنه وضع السلطة القضائية ضمن حيز السلطة التنفيذية، إلا أن (مونتسيكو)، قد عمق اعتراضه على ذلك، و رأى ضرورة فصل السلطة القضائية عن التنفيذية واستقلالها عنها، إذ لا يمكن أن يكون القضاء المستقل تابعاً للجهة التي ينبغي عليه مراقبتها ومحاسبتها، و قد شاع هذا المفهوم للفصل بين السلطات من خلال كتاب (مونتسيكو) « روح القوانين « الصادر عام 1784م، وهو ما أخذت به فرنسا على مراحل عقب ثورتها في عام 1789م، ومن بعدها أخذت به معظم الدول في أوروبا .
إن نظام الفصل بين السلطات، (أو استقلالها عن بعض)، أثبت على مدى قرنين بأنه من أفضل الآليات المناسبة ، لإدارة شؤون الأوطان، وإدامة فاعلية إعادة النظر في النظم والقوانين، بما يكفل التعاطي الخلاق مع المستجدات، وبما يحقق أعلى درجات الشفافية، والمراقبة والمحاسبة ، من أجل سلامة الاستخدام الأمثل لثروات الوطن ومقدراته، وقطع السبل على استغلال المركز أو الوظيفة من اجل تحقيق المكاسب غير المشروعة مادية كانت أو معنوية، وكذلك للحد من سوء استخدام سلطة القانون، وهيبة الدولة بدون تخويل قانوني ودستوري.
وقد أثبتت المجالس النيابية الممثلة للسلطة التشريعية في الدول الديمقراطية، مقدرتها على المحافظة على مبدأ السيادة للشعب، وعلى مبدأ المشاركة في القرار بغية تحقيق العدالة والمساواة، وحفظ المصالح العليا للوطن، بوصف تلك المجالس جهات تشريعية ورقابية، لا تتعاطى مع إغراءات الثروة والسلطة التي تتمتع بها السلطة التنفيذية، ولا تتعامل مع أجهزة بيروقراطية حاملة لبذرة الطمع أو الرشوة أو الفساد.
وقد حفظ القانون لتلك السلطة التشريعية حقها (أفرادا ومجموعات) في التمتع بالحصانة البرلمانية التي تمنحها حق النقد والمساءلة والمحاسبة، دون أن يتعرض أي منهم لأي عقاب جراء التعبير عن رأيه وهذا ما عزز درجات الشفافية، والاستقلالية، وجودة وفاعلية الأداء.
إن المجالس النيابية هي عين الضمير الشعبي، والوطني الحادب على مقدرات الوطن، وهي عنوان المشاركة في صناعة القرار، وقد استبشرنا خيراً في الآونة الأخيرة حين رأينا «مجلس الشورى» وهو يناقش عدداً من المسؤولين التنفيذيين، حول قضايا ومشاكل حدثت في إداراتهم، ونأمل أن يستمر المجلس في أداء هذا الدور الرقابي الهام، لأن من أمن العقوبة أساء استخدام السلطة.
ولكن ذلك يحتاج إلى قوننة نظامية دستورية لدور«المجلس» وإلى تمتعه بنفس الصلاحيات التي يتمتع بها نظراؤه في مختلف برلمانات العالم، ولسوف يكون أداؤه أقوى تعبير عن آراء المواطنين وتعددية شرائحهم ومناطقهم ومنحدراتهم الفكرية والمذهبية، حين يتم انتخاب نسبة معينة من أعضاء المجلس من قبل المواطنين، تتدرج بالزيادة في كل دورة للمجلس، ليكون تعبيرا عن إرادة ورغبات الناس، وليكون أكثر فاعلية في أداء مهامه ، وأكثر تعبيرا عن مفهوم المشاركة الشعبية في صناعة قرارات الحكم الرشيد.