لماذا نحن حريصون على تذكر يوم بدر؟ هل لأنها معركة خالدة فصلت بين تاريخ الدعوة الإسلامية ما قبل المعركة وبعدها!! أم لأنها أول حرب حقيقية بين المسلمين والمشركين أم لأنها أسست لكيان الدولة الإسلامية الذي نشأ في المدينة المنورة لأول مرة!! أم لأنها اشتملت على دروس وعبر كثيرة في المناحي الإيمانية وفي المناحي الإدارية والعسكرية أيضا!! أم لأنها أسست لمبدأ الشورى في المعارك وأرست قواعد الاجتهاد الإنساني حتى وإن كان العمل جهادا في سبيل الله.
نعم .. نحن نحتفي بيوم بدر ونتذكره لكل ذلك، ولأنه يوم من أيام الله التي أمرنا أن نحتفي بها ونتذكرها لقوله تعالى: { وذكرهم بأيام الله} ( سورة إبراهيم / 5) ونتعلم منها الدروس والعبر ونتذكر فيها أولئك الرجال الغر الميامين الذين صدقوا الله في ذلك الموقف العظيم، فأجزل لهم الثواب وقال عنهم: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. ليجزي الله الصادقين بصدقهم} (سورة الأحزاب / 23، 24).
فبدر ليست مجرد معركة، ولا نصر عادي، إنما هي انتصار للإيمان، فقد كانت الثلة القليلة مع سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام في نقص من العدة والعتاد، ولكنهم كانوا متشبعين بالإيمان، وبما يبثه فيهم الرحمة المهداة صلى الله عليه وآله وسلم فيما عند الله، فاستوى عندهم ذهب الدنيا وترابها، وكانوا لا يريدون إلا مرضاة الله سبحانه وتعالى، فلم تخفهم الجموع الكافرة، ولم يخفهم ما رأوه من كثرتهم وسلاحهم، ولم يفت في عضدهم نقص ما عندهم لأن من كان الله معه فكل شيء معه ولا يخاف أي قوة مهما عظمت.
وأنا في تصوري أن هذا هو الدرس الحقيقي الذي يجب أن نتشبث به نحن الآن في مشهد الأمة الإسلامية يومنا هذا، والذي يشبه كثيرا حال المسلمين في ذلك الوقت في ضعفهم أمام قريش وجبروتها وحلفائها، فقد أصبحنا أمة تكالبت عليها الأمم من حولها، وتراجعنا في كل محفل حتى أصبحنا عالة عليها وعلى صناعاتها وتقنياتها المتطورة، فوالله لو تمثلنا هذه الروح التي وقف وصمد بها هؤلاء الرجال في بدر الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لتبدل حالنا ولعدنا إلى صدارة الأمم.
ومن الخطأ أن نظن أن الجهاد هو فقط مواجهة العدو في الحروب، وهو لا شك نوع من أنواع الجهاد ومندوب إليه عند الضرورة، ولكن الجهاد صنوف وألوان ولكل زمن نمط جهاده، وكل عصر يختلف في عدته وعتاده التي يحتاجها: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} ( الأنفال / 60 )، فنحن الآن نحتاج للجهاد في مجالات العلوم والصناعة والتقنية، وأحوج ما نكون الآن إلى جهاد مهندس مبدع يقيم مشاريعنا أو إلى طبيب ماهر متفرد في تخصصه ليعالجنا، أو إلى اقتصادي حكيم يخطط التخطيط الأمثل لاقتصادنا، أو إلى مدرس مخلص واع ينشئ جيلا صالحا، أو إلى داعية متنور متفتح يربط الناس بروح الدين ويجمع ولا يفرق إلخ .. لأننا نقف على محك ومفترق طرق في وقتنا هذا الذي يشهد تغييرات سريعة وقفزات هائلة قلبت الموازين، فيجب أن نكون على قدر التحدي، فنحن أمة التحدي لأننا نستمد قوتنا وعزتنا من ديننا الإسلام كما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه «إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله» (صحيح الترغيب للألباني) وهي حكمة نفذت إليها بصيرة سيدنا عمر، فلنشمر السواعد ونعمل كل فيما يليه بروح التعاون والجدية في التناول، ولنستشعر في نفوسنا أن كلا منا على ثغر من ثغور الأمة فلا يؤتين القوم من قبله.
إنها معركة سيظل التاريخ يذكرها بمداد من نور، وتستسقي منها الأمة على مر العصور الدروس والعبر، وستبعث مواقفها البطولية وتضحياتها في قلوب الأجيال أنوار الإيمان واليقين، فنسأل الله أن يملأ نفوسنا بالمزيد من الثقة والإيمان بنصره، وأن يغنمنا في ذكرى هذه المعركة الخالدة من عطاياه ومنحه كما أغنم نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام بنصره وتأييده إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وما النصر إلا من عند الله.