-A +A
طلال صالح بنان
ما يحدد قيمة العملة الحقيقية هو قوتها الشرائية، لا كمية عرضها في السوق، ارتفاع الأسعار يعني أن عرض النقود زاد على مستوى عرض السلع والخدمات المتاحة في لحظة تاريخية معينة. وإذا لم تتواكب زيادة عرض النقود مع زيادة حقيقية في إنتاج السلع والخدمات، فإن أي زيادة في عرض النقود تقود إلى زيادة الأسعار (التضخم)، بغض النظر عن ما إذا كانت العملة النقدية المتداولة قابلة للتحويل، أم لا. في ذلك الأمر تتساوى العملات، سواء كانت العملة هي الدولار أو اليورو أو الريال السعودي أو الجنيه المصري. وما يحدد قيمة عملة بعينها هو مدى الطلب عليها من عدمه. في هذه الحالة، إذا فرض وأن قررت الحكومة أن يكون شراء النفط بالريال لا بالدولار، فإن سعر الريال يتذبذب وفقا لمستوى الطلب على النفط السعودي، ارتفاعا وانخفاضا. كما أننا نلاحظ أن سعر الريال السعودي يرتفع مقابل عملات معينة، في بعض الدول الإسلامية في مواسم الحج والعمرة، حتى مع ربط سعر صرف الريال ــ رسميا ــ بالدولار.
أحيانا، يتحكم العامل النفسي والتاريخي في تحديد قيمة العملة. العالم يبحث عن الدولار لا لقوة الدولار الشرائية في بلد المنشأ (الولايات المتحدة الأمريكية) ولا لإمكانات اقتصاد الولايات المتحدة، بوصفه أكبر اقتصاد في العالم (الأكبر ليس بالضرورة الأقوى)، ولكن لأن العالم في اتفاقية برتون وودز 1944، قرر أن يكون الدولار عملة عالمية. فبموجب تلك الاتفاقية تعهدت الولايات المتحدة أن تضمن تحويل الدولار إلى ذهب، مقابل 35 دولارا للأوقية لمن يطلبه، نظير التخلص من نظام الذهب الذي كان سائدا، منذ عام 1876. فاحتفظت أمريكا بذهب العالم، ومن يريد ذهبا، فإن الولايات المتحدة توفره له بذلك السعر الذي حددته اتفاقية برتون وودز!.

الغريب أن الثقة في الدولار الأمريكي استمرت، حتى بعد أن أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون 15 أغسطس 1971 تخلى الولايات المتحدة ــ رسميا ــ عن نظام برتون وودز، من جانب واحد، فأوقفت واشطن تحويل الدولار لذهب! من يومها أصبح الذهب يتحدد سعره وفقا لقانون العرض والطلب، حتى تجاوز سعر أوقية الذهب 1900 دولار في سبتمبر 2011. والأكثر غرابة أن الثقة في الدولار لم تهتز حتى بعد أن ثبت أن بنك الاحتياطي الفيدرالي، منذ عام 2008، يجد صعوبات حقيقية في دفع الفوائد على أذونات الخزانة الأمريكية! كل نهاية عام مالي، ينتظر العالم حيل رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي بن برناركي للتعامل مع مشكلة الوفاء بدفع الفوائد على أذونات الخزانة الأمريكية، حيث الكثير منها أصول سيادية لدول أخرى! ليس من تفسير اقتصادي مقنع لذلك إلا العامل النفسي الذي تطور مع نظام برتون وودز. فالدولار أهم سلعة منتجة في الولايات المتحدة، والأكثر طلبا على مستوى العالم!
على أي حال: عوامل ومتغيرات عدة تحدد قيمة عملة أي دولة، إلا أن العامل الأهم هنا هو: قوتها الشرائية المرتبطة ارتباطا أساسيا بقدرة المجتمع الإنتاجية، فكلما تزايدت معدلات النمو تزيد قيمة العملة، والعكس صحيح، وإن كان زيادة سعر صرف العملة، نتيجة لزيادة قدرة الدولة الإنتاجية، ليست في كل الأحوال ظاهرة صحية؛ لأن ذلك يمكن أن يقود إلى الانكماش، الذي لا يقل ضررا عن التضخم، بالإضافة إلى آثاره السلبية على الصادرات.
لكن للحفاظ على قيمة العملة لا بد من إيجاد علاقة متوازنة بين النمو والتضخم من جهة، وبين التضخم وسعر الفائدة من جهة أخرى. هذه العلاقة من الصعب التحكم في متغيراتها في اقتصاد شبه ريعي مثل اقتصاد المملكة، حيث تمثل عائدات النفط أكثر من 90% من اقتصاد المملكة الكلي. فنحن ــ تقريبا ــ نستورد كل شيء بعائداتنا النفطية (البترودولار)، وبالتالي، يقع اقتصاد الفرد السعودي بين مطرقة أسعار السلع العالمية المرتفعة وسندان الدولار المتذبذب. ليس هناك مجال حقيقي لزيادة الإنتاجية؛ لأننا ــ ببساطة ــ لا ننتج محليا الكثير من احتياجات الأسرة السعودية، بتكلفة تنافسية، دون إعانة الدولة وسياستها الحمائية، بل على مستوى سوق الخدمات لا يمكن القول إن البيروقراطية الإدارية ــ على سبيل المثال ــ مرتفعة الانتاجية.
إذن، لا مبرر ــ في رأيي الشخصي ــ اقتصاديا لزيادة الدخول (الرواتب)، إلا ما تستشعره الحكومة من مسؤولية اجتماعية في إعانة المواطنين على مواكبة ارتفاع أسعار السلع التي يتحكم فيها عامل ارتفاع الأسعار عالميا ومتغير سعر الدولار المتذبذب باتجاه الانخفاض في كثير من الأوقات، نتيجة لضعف أداء الاقتصاد الأمريكي. ثم إن زيادة الدخول ليست بالضرورة تتم عن طريق زيادة كمية النقود التي تعطى للأفراد في شكل أجور أو رواتب. هناك متغيرات مهمة لا يلتفت إليها عند الحديث عن مشكلة الرواتب. كما أن الحكومة تدفع مليارات الريالات سنويا لتوفير فرص عمل للشباب ليس بالضرورة أن تكون منتجة، ما يفاقم من مشكلة الرواتب، كما أن الحكومة تدفع مليارات الريالات سنويا للإبقاء على أسعار سلع وخدمات في أدنى مستويات أسعارها العالمية. فأسعار بعض السلع الأساسية مثل الدقيق والحليب والزيت والأسمنت والحديد، وأسعار الطاقة مثل الكهرباء والمحروقات، لولا تدخل الدولة لفرض تسعيرة لها أو إعانتها بصورة مباشرة بتحمل جزء كبير من سعرها، لشعر المواطن ــ حقيقة ــ بمدى عبء تكلفة الحياة بالنسبة له. وإذا أضفنا لكل ذلك تكفل الدولة بتوفير خدمات حياتية، بغض النظر عن مستواها، مثل التعليم والصحة والقضاء وبعض الخدمات البلدية والحكومية، لأصبحت لدينا بالفعل أزمة دخل حقيقية عند المواطن السعودي. ما بالك لو فرضت الدولة ضريبة على الأجور والرواتب!
باختصار: زيادة الرواتب في التحليل الأخير مشكلة نفسية واقتصادية معا، ترجع جذورها في الاقتصاد الريعي والنظام السياسي الأبوي. فالمواطن السعودي ينظر إلى الحكومة بأنها «أب حانٍ رؤوم» لا يبخل على أبنائه، وبالتالي من الطبيعي أن يتوقع من الحكومة مسؤولية اقتصادية واجتماعية لجعل الحياة أكثر سهولة وأقل عناء. هذا بالإضافة لحقيقة أن الدولة تمتلك، بصورة فعلية، أداة الإنتاج الرئيسية (النفط).
أما الحديث عن الإنتاجية والعلاقة بينها وبين مستويات الأجور (الرواتب)، فإنها تبرر عدم استجابة الحكومة لفكرة زيادة الرواتب؛ لأن ما يهم المواطن هو زيادة كمية النقود في جيبه، على الأقل من أجل شعوره بالأمان الاقتصادي حتى ولو كان خادعا، دون ما تبصر في تبعات ذلك التضخمية، وبالقطع دون تفكير في زيادة إنتاجيته. فبالنسبة للمواطن، الأسعار تتزايد على أي حال، بغض النظر عن كمية النقود التي يتحصل عليها نهاية كل شهر، ومن وجهة نظره: ليس هناك من حل سوى مراجعة الحكومة للبند الأول في الميزانية، بصورة دورية.