-A +A
عبدالله عويقل السلمي

أولا ليعلم القارئ الكريم أن عندي من الخوف بل الخوف من الخوف وهو أقسى درجات الخوف -كما قال شكسبير- ما يمنعني من قتل جرادة، ولكن لدي من الشجاعة ما يجعلني أنادي بالشروع في القتل، ولكن أي قتل أنادي به؟ إنه قتل الأمراض بعد ظهور الأعراض، وأعني الأمراض المرتبطة بالذات الإنسانية التي تعوق حركة الجسد إن كانت عضوية وتعوق الإرادة والعزيمة إن كانت نفسية، وتعوق الإبداع والتألق إن كانت فكرية، وتعوق الانطلاق والتحرك على أرضية صلبة إن كانت ثقافية، وبسبب هذه المعوقات يتحول الإنسان من عضو عامل فاعل إلى شيء أشبه ما يكون بالنباتات الضارة التي تعيش على غيرها. ولست عالم طب ولا تربية ولا عالم نفس أحاول التعرف على تلك الأمراض وأسبابها وظواهرها ولكنني نحوي يقول ما يقول غيره من النحويين وأهل اللغة وهو أن الكلام ما تركب من كلمتين وأفاد معنى يحسن السكوت عليه.. فأقول إن أول ما ينبغي قتله هي تلك الأمراض الكلامية التي تخرق الآذان وتتركب من كلمات كثيرة لا يحسن السكوت عليها؛ بدأ بنثرها كتابنا ومثقفونا وجيلنا عبر الوسائط الحديثة؛ لأن بواعثها انفعالات وقتية أشبه ما تكون بفقاعات هواء، وتجعل صاحبها يعيش في غيبوبة حضارية وثقافية يطول عليه ليلها. ومن أبرز تلك الأمراض الفتاكة التي امتلأت بها النفوس في مجتمعنا الكذب والنفاق والرياء والغرور والكبر وعشق الذات وتورم الذات والرغبة في التمرد على القيم الثقافية، وغياب الشعور بالمسؤولية وشيوع اللامبالاة والكسل والإمعية وقبول المذلة، كل هذه أمراض تفرض علينا أن نثور على أنفسنا ووعينا الغائب وثقافتنا العابثة؛ لنبدأ محاولات للشروع في قتل هذه الأمراض والقضاء عليها قبل أن تجهز علينا كمجتمع له قيمه وهويته وثقافته، وأقر أن محاولات جادة وكثيرة بذلت وما زالت من قبل مؤسسات تربوية وثقافية ودينية إلا أنها لم تحقق الغرض؛ لأنها تطرق على غير باب وتدخل للتنفيذ من غير المدخل الطبيعي وبالتالي تشعبت بها السبل، وراحت تخرج من سرداب وتدخل في آخر، وهي محاولات لا تحمل ضوءا يزيل أمامها عتمة تلك السراديب فظلت تلك الأمراض تمارس جرمها داخل الذات الإنسانية فنمت داخلها الاستبداد والسير خلف سلطة الشهوات والإحساس بالغرور بمنجزاتنا الحضارية دون رصيد حقيقي ملموس وعلت شعارات المنافع وأضحت المصلحة تحتل مكان الصدارة وفي سبيلها يهون كل شيء وتنحل عرى كثيرة وتمزق روابط ما كان لها أن تمزق.. إن هذا الواقع يستدعي أن يتغير (التكتيك) الحربي مع هذه الأمراض كي يمكن الوصول إلى داخل الذات والشروع في قتل تلك الأمراض ولنبدأ أولا بقتل مرض ثقافة الفوضى ليحل مكانها النظام، والكسل لنغرس مواقعه العمل الدؤوب والكفاح الراقي، وروح الاتكالية والعيش عالة على غيرنا لنبدأ مرحلة الاعتماد على الذات. إنني أتصور أننا حين نشرع في هذا القتل وننفذ هذا المشروع سنسد الفجوة بين الكلمة والفعل وقصور الواقع وطموحات المنى، وستقذف أرحام الحياة من جديد بجيل يسعى لنفع دينه ورفعة وطنه وأمته، وكل ذلك لا يتحقق إلا من خلال قرار واع شجاع ينشل الذات الإنسانية في مجتمعنا من المستنقع الآسن الذي تتلوى بين ديدانه وتلسعها هوامه؛ لتستبدل الأمراض بالفضائل والقيم، فلا تتعطل الإرادة ولا يشل الإحساس ولا تشوه النظرة إلينا وكل ذلك يمكن تنفيذه بثقافة تعيد العافية للإنسان فيعانق الحياة وتعانقه الحياة وهو كائن حي فاعل.. وألقاكم.