-A +A
ياسر سلامة
يحكى أن أما كانت تذاكر لأبنائها، فأعطت طفلها ذا الأربـع سنوات كراسة رسم حتى لا يشغلها عن بقية إخوته وفجأة تذكرت أنها لم تقدم العشاء لوالد زوجها المسن الذي يعيش بحجرة في فناء المنزل، فأسرعت بالطعام إليه وعندما عادت لاحظت أن طفلها يخط بقلمه مربعات ودوائر، فسألته: ما الذي ترسمه؟! فأجابها بكل براءة: أرسم بيتي الذي سأعيش فيه عندما أكبر وأتزوج، فتبسمت الأم قبل أن تسأله: وأين ستنام؟! فأخذ يريـها: هذا المطبخ، وهذا المجلس، وهذه هي غرفة النوم، لكنه ترك (دائرة منعزلة) فتعجبت الأم وقالت له: ولماذا يا حبيبي هذه الغرفة خارج البيت؟! فأجابها: إنها غرفتك التي ستعيشين فيها !؟.
صعقت الأم لرد طفلها، وأخذت تتخيل معاناتها حين تصبح عجوزا، فما كان منها إلا أن نقلت أثاث الغرفة المخصصة للضيوف خارجا وأحضرت سريـر والد زوجها ليسكن معهم داخل البيت، وعندما عاد الزوج تفاجأ بما رأى وراح يسألها: ما الداعي لهذا التغيير؟! فأجابته والدموع تترقرق في عينيها: إنني أختار أجمل الغرف التي سنعيش فيها إذا هرمنا وعجزنا عن الحركـة، ففهم الزوج مقصدها وأثنى عليها. هذه الحكاية المعبرة، تتبادر إلى ذهني كثيرا، أتذكرها بحرقة كلما قادتني الصدفة للوقوف على قضية عقوق لأم أو لأب يشتكي جحود أبنائه وقطيعتهم لـه، أو عندما أرى عجوزا تسكن منذ زمن في غرفة وحيدة وضيقة أو عندما أسمع عن رجل فقير يسكن تحت شجرة أو كبري، أتذكـرها بكل أسى حين أقرأ إنذارا يأتي بعد مدة طويلة من صدور الأوامر المنظمة ليعلن من خلاله بأنه سيتم البدء بإزالة التعديات، فيتحرك البلدوزر لهدفـه البعيد شاقا طريقه دون التفاتـة من جوار الشبوك الطويلة والأحياء العشوائية والمساكن الكائنة في بطون الأوديـة؟!. أتذكرها والألم يعتصرني، حين أعلن مؤخرا بأن 71 أسرة من قاطني البناءين الخيريين (التوفيق) و(بـر 9) التابعين لجمعية البر الخيرية بمكة المكرمة يواجهون التشرد والشتات بعد أن تلقوا خطابا من الجمعية ينذرهم بإخلاء السكن خلال 30 يوما وهي المهلة التي منحتها شركة الكهرباء قبل البدء في فصل التيار عن العقارين بحجة أنهما واقعان ضمن مشاريـع (الإزالة) مع أن غالبية قاطنيها أرامل وعجائـز (على باب الله) !؟.
يجب معالجة كل هذه الظواهر، حيث إنه لا يستقيم أن يطول أمد الفصل في قضايا عقوق الوالدين، ولا يستوي أن يتحمل الوزر كله مواطن أحيا أرضا بعد فقده الأمل في منحة أو قرض، ولا يعقل أن يواجه قاطنو الأربطة مثل هذه الظروف القاسية، لأن (البلد) في خير ولا يتخلى عن أبنائه، ومن واجب أي مسؤول عدم الانشغال عن أداء واجباته تجاه (المواطن) حتى لا يصبح (منعزلا) عن مقومات الحياة الكريمة.

ajib2013@yahoo.com