-A +A
زكي الميلاد
تحدث الدكتور فهمي جدعان عن مالك بن نبي في سياقين فكريين عامين، ولم يتحدث عنه مباشرة وبالخصوص، وهذان السياقان هما:
السياق الأول: جاء عند حديث الدكتور جدعان عن فكرة التقدم في المجال العربي الحديث، متتبعا هذه الفكرة، وكاشفا عنها في كتابات ومؤلفات المفكرين المسلمين العرب المعاصرين، كما تجلى ذلك في كتابه (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) الصادر سنة 1979م، وفي نطاق هذا التتبع توقف جدعان أمام فكرة الحضارة عند ابن نبي لصلتها وعلاقتها بفكرة التقدم.

السياق الثاني: جاء عند حديث جدعان عن ابن خلدون تأثيره وحضور إشكاليته الحضارية في ساحة الفكر العربي الحديث، مبتدئا من رفاعة الطهطاوي (1216ــ1290)هـ / (1801ــ1873م)، وخاتما بمالك بن نبي، في دورة زمنية تقدر بمائة سنة تماما، أي قرن كامل، فالطهطاوي توفي سنة 1873م، وابن نبي توفي سنة 1973م.
هذا السياق الفكري، تحدث عنه جدعان وشرحه في مقالة له بعنوان (ابن خلدون في الفكر العربي الحديث) نشرها سنة 1980م، وأعاد نشرها لاحقا في كتابين له، الأول كتاب (نظرية التراث.. ودراسات عربية وإسلامية أخرى) الصادر سنة 1985م، والثاني كتاب (الماضي في الحاضر.. دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية) الصادر سنة 1997م. وما ذكره جدعان من ملاحظات حول النظرية الحضارية عند ابن نبي في السياق الأول، أعادها وكررها في السياق الثاني، مع قدر بسيط من الزيادة تحددت حول ما افترق فيه ابن نبي عن ابن خلدون من جهة النظرية والمنهج. وتحددت هذه الملاحظات، في أن جدعان وضع ابن نبي ونظريته ما بين حدين، أحدهما قديم والآخر حديث، ما بين ابن خلدون القديم من جهة، وما بين الفلاسفة الغربيين وحدهم الحديث من جهة أخرى.
في السياق الأول، أشار جدعان إلى هذين الحدين، إلا أنه اعتنى أكثر بتأثير الفلاسفة الغربيين، وتغيرت هذه الصورة في السياق الثاني، إذ اعتنى أكثر بتأثير ابن خلدون. وعن هذين الحدين وتأثيرهما على ابن نبي ونظريته في الحضارة، يقول جدعان: لقد كان مالك بن نبي أبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون، ومع أنه قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة تمثلا عميقا، واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلاسفة الغربيين، إلا أن ابن خلدون بالذات يظل أستاذه الأول وملهمه الأكبر.
هذا النص أشار إليه جدعان في مفتتح حديثه عن ابن نبي في كتابه الأسس، وظهرت عنايته في لفت الانتباه إلى تأثير الفلاسفة الغربيين، في خاتمة الحديث عنه بقوله: وهكذا نجد أن إلحاح مالك بن نبي على الطريق الأصيل، المتميز لحضارة عربية إسلامية جديدة، لم يمنعه في النهاية من استلهام أفكار كسرلنج وفرويد، وعدد من المفاهيم الرئيسة التي يتداولها في عصرنا علماء الاجتماع وعلماء النفس. لا بل إنه ليمكن القول إنه قد أسرف في الاعتماد عليها في بناء جانب مهم جدا من تحليلاته الحضارية، وذلك على الرغم من أنه كان يعلم حق العلم، أن المفاهيم العلمية سواء تلك التي تنتمي إلى الحقل الطبيعي، أم تلك التي تنتمي إلى الحقل الإنساني، ينبغي أن تؤخذ بتحفظ كبير.
وفي السياق الثاني، أشار جدعان إلى تأثير هذين الحدين على ابن نبي، مذكرا ومعيدا النص نفسه الذي افتتح به الحديث عنه في كتابه الأسس، ومؤكدا عليه مرة أخرى في خاتمة الحديث عنه بقوله: وهكذا نلاحظ أن المنحى العام لإشكالية مالك بن نبي خلدوني في جوهره، لكن مضامينه تستلهم الفكر الفلسفي الأوروبي الحديث إلى مدى بعيد.