-A +A
شتيوي الغيثي
دار جدال على مدى ثلاثة أيام في تويتر بين الأستاذ زياد الدريس والأستاذ محمد السيف حول تاريخ الدريس الثقافي، بعد أن نشر السيف مقالا قديما في نهاية الثمانينات الميلادية يرد فيه الدريس على تركي الحمد، مما أزعج الدريس وجعل الحوار يمتد إلى تغريدات تصل من أحدهما تجاه الآخر إلى عشرين تغريدة متشنجة، وفيها أقرب إلى ما يسمى «الضرب تحت الحزام» من ناحية اتهام بعضهما بضيق الأفق وعدم قبول الآخر أو الحديث عن اليونسيكو والمواقف القديمة عنها. وبإمكان القراء متابعتها في صفحتي الرجلين في تويتر لصعوبة نقل التغريدات لكثرتها.
هذه المعركة كانت تدور أمام الناس ما بين معارض ومؤيد لأحد الطرفين حسب التوجه الفكري الذي يحمله الناس تجاه بعضهم البعض. المعركة أخذت بعدا ثقافيا اجتماعيا ينم عن مرحلة التحولات الدينية والثقافية للمجتمع السعودي إبان العشرين سنة الماضية، فلا الإسلاميون استطاعوا التخلي عن أيديولوجيتهم الإسلاموية حتى بعد تصحيح منعرجاتها الفكرية والتخلي عن تطرفها الفكري، ولا الحداثيون استطاعوا نسيان تلك الإساءات التي حصلت رغم تجاوز الأجيال الحديثة لها أو حتى تجاوز (بعض) الإسلاميين لها كذلك، خاصة من الذين صاروا ينتهجون نهجا وسطيا يبعدهم عن تطرف الأمس.

حساسية هذه المعركة أنها جاءت في وقت عمليات التهم المبتادلة بين المثقفين والإسلاميين خصوصا بعد سقوط الإخوان في مصر، وصدى هذا «السقوط» أو «الإسقاط» في الخليج العربي، حتى أصبحت المسألة وكأنها معركة بين إخواني وليبرالي بعدما كانت معركة ليبرالي وإسلامي أو سني وشيعي أو غيرهما، لذلك كانت هذه المعركة ذات أفق سياسي رغم أنها لا تحمل ذلك ويصعب وضعها في غير إطارها الثقافي، خاصة أن الرجلين يتميزان بالأفق الثقافي الذي لا يمكن أن ينجر إلى إطاره السياسي لما يمتلكانه من وعي ثقافي معروف عنهما.
وبعيدا عن هذه المعركة بين الرجلين فقد عادت في الفترة الأخيرة محاولات التصنيف الأيديولوجي إلى الساحة رغم خفوتها النسبي، الأمر الذي فرضته أحداث المنطقة الأخيرة في الصراع الدائر بين (بعض) الليبراليين الذين أيدوا العسكر في انقلابهم، والإخوان في مصر، الشيء الذي ألقى بظلاله على الخليج بعمومه والسعودية تحديدا، مما جعلنا نشهد عمليات تصنيف متبادلة. وتنبيش ماضي الناس أحد أهم العمليات التي يراد منها تأطير الناس في أطر أيديولوجياتهم السابقة حتى وإن تخلى الكثيرون عنها.. إضافة إلى أن مسألة المراجعات الفكرية الصريحة من قبل الإسلاميين تكاد تكون ضئيلة، وإن حصلت فهي بلا اعتراف حقيقي، وفي رأيي أن هذا الأمر يشي بمسألة انحسار الحوار الذي كنا نتبجح به منذ سنوات طويلة. الحوار من غير نقد للذات الثقافية أو الإسلاموية (الأفكار الأيديولوجية بشكل عام)، فإن عمليات الحوار ليست إلا نقدا متبادلا أو نصائح متبادلة دون حوار حقيقي نقدي للذات قبل نقد الآخرين، وعلينا ألا نخجل أو نخاف من هذا النقد، خاصة إذا ما كنا أمام عمليات مراجعة حقيقية.
المنطقة العربية تعج بمسائل التصنيف الفكري خصوصا في بعد ما يسمى بالربيع العربي، الأمر الذي جعلنا نبتعد كثيرا عن التعايش والحوار. شخصيا كنت أشك بمسألة التعايش من قبل المثقفين أو الإسلاميين، (رغم أني كنت ممن كتب ومازال يكتب عن أهمية الحوار والتعايش)، وما حصل من تقارب قديما لم يكن إلا عملية سياسية ممنهجة تهدف إلى أمور أخرى قد تكون بعيدة المدى، لكن في الحقيقة تبقى المكارثية التصنيفية في الداخل. نجد هذا الأمر في نظرة الإسلاميين الشكية لليبراليين دون تمييز، ونظرة الليبراليين المتوجسة تجاه الإسلاميين بعمومهم دون تفصيل. أيضا نجد عمليات التمذهب المكارثي الطائفي تعود بأشد مما كانت رغم دعوات التعايش والتقارب التي كان يدعيها الطرفان.. اللعبة السياسية سيدة الموقف وهي التي تحرك جميع هذه الأطراف لتقربها فيما بينها أو تباعدها، ولذلك فقد كانت مسألة التعايش تحت المظلة السياسية وهي مظلة عالية لم تنزل للإطار الاجتماعي، ولذلك رأينا عمليات التصنيف المتبادل والخجل من الماضي أو التفتيش عن أفكار الأمس كلها تعود مرة أخرى، لأن التعايش لم يكن حقيقيا بحكم غياب دولة المواطنة ومؤسسات المجتمع المدني التي يستطيع الجميع تحت مظلة وطن واحد العمل على ما يستطيع من غير أن تكون هناك إشكاليات في الحروب الصغيرة.