-A +A
زكي الميلاد
عـند ضـبط وتحديـد ملاحظات الدكتور فهـمي جدعان على نظريـة الحضارة عـند مالك بن نبي، يمكن القول إنها احتوت على جانـب صريـح، وعلى جانب آخر غـير صريـح. الجانب الصريـح تحدد في اعتبار الدكتور جدعان أن ابن نبي قد أسرف في الاعتماد على أفكار ومفاهيم عـدد من الغربـيين، في بناء جانب مهـم جدا من تحليلاتـه الحضارية.
والجانب غير الصريـح، أن جدعان بقصد أو من دون قصد، قد سلب من ابن نبي عامل التجديـد والابتكار في تحليلاته الحضارية، وذلك حين وضعه ونظريـته وتحليلاته ما بين الاستلهام من الفلاسفة الغربـيين، والاستلهام والتتلمذ على ابن خلدون.

وبشأن الجانب الصريـح، لا خلاف في أن ابن نبي قد اعتمد على أفكار ومفاهـيم عدد من الغربـيين، لكنه في نظري لم يصل إلى حد الإسراف كما صور ذلك الدكتور جدعان، ومن جهـته لم يخفِ ابن نبي اعتماده على أفكار بعض الغربـيين، وخاصة المفكر الألماني هرمان دي كسرلنج، الذي صـرح في كتابه (شروط النهضة)، تـارة بالاعتماد على آرائـه، وتـارة بالاستناد على أفكاره.
وهذا الاعتماد والاستناد حصل في موضوع محدد، يتعلق بالكشف عن أثـر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة، وأراد ابن نبي الكشف عن هذا الأثـر في الحضارتـين الإسلامية والمسيحية، في الحضارة الإسلامية اعتمد واستند على آرائـه وأفكاره، وفي الحضارة المسيحية اعتمد واستند على آراء وأفكار كسرلنج الذي درس دور الفكرة المسيحية في تركيب الحضارة الغربـية، وكانت هناك حاجة فعلية للعودة إلى هذه الآراء والأفكار والاستناد عليها، في هذا الموضوع تحديدا.
وما ينبغي قوله في هذا الجانـب هو إن عودة ابن نبي إلى آراء وأفكار بعض الغربـيين، أكسبت أفكاره نضجا وعمقا وبعدا في النظر، لأنها كشفـت له عن خبرة حضاريـة مهمة وثريـة، لا بد من الانفتاح عليها، والتواصل معها في حقل التحليل الحضاري والدراسات الحضاريـة، خاصة أنه لا خشية على ابن نبي من مؤثـرات الثقافة الأوروبـية في التأثـير على هويـته وأفكاره وأخلاقه.
أما بشأن الجانب غـير الصريـح، فلا خلاف أيضا في أن ابن نبي قد تأثـر واستفاد في تحليلاتـه الحضاريـة من ابن خلدون من جهـة، ومن الفلاسفة الغربـيين من جهـة أخرى، ولكن الخلاف مع الدكتور جدعان في الطريـقة التي حصـر فيها ابن نبي ما بـين هذين الحدين، وكأنه لا تجديد له ولا ابتكار.
والتقديـر السليم، أن ابن نبي قد تأثـر واستفاد من أولئك الذين أشار إليهم الدكتور جدعان، لكنه لم يـقف عند هذا الحد، ولا ينبغي أن يصور بهـذه الطريقة وحدها، لأن ابن نبي إلى جانب ذلك كان صاحب تجديـد وابتكار في تحليلاتـه الحضاريـة من جهـة، وفي بناء نظريـته الحضاريـة من جهـة أخرى.
وما يـؤكد هذا التقديـر، أن جدعان قد تنـبه إلى مفارقات في النظريـة والمنهـج ما بـين ابن خلدون وابن نبي، داعيا حين المقارنـة والمقاربـة بينهـما من جهـة الاتباع، إلى ألا نذهب بعيدا، في ذلك، لأنـه وجد أن ابن نبي لا يتابـع ابن خلدون في كـثير من آرائـه، والقضـية عنده تحتاج إلى تحليل واستقصاء كـبيرين، وهذا ما نقوله ونرشد إليه، ليس من جـهة العلاقـة مـع ابن خلدون، وإنما حتى من جهـة العلاقـة مع الفلاسفة الغربـيين. ولأن القضـية تحتاج إلى تحليل واستقصاء كـبيرين، وبحكم أن المجال لا يتسع لهـما، فقد اكتفى جدعان بالإشارة إلى أمريـن مهمـين ــ حسب وصفه ــ اختلف فيهـما ابن نبي عن ابن خلدون، وهما:
الأمـر الأول: يتعلق بدورة الحضارة التي تمر بأطوار تبدأ من المـيلاد وتنتهي إلى الأفول، لكن ماذا عن الحضارة التي دخلت طور الأفول، هل بإمكانها القيام والنهوض مـرة أخرى! ابن خلدون لا يثبت ذلك، لكن ابن نبي يثـبته ويقول به، وحسب قول جدعان إن مالك يقبل بدورة الحضارة على طريـقة ابن خلدون، نقطة البداية الصعود إلى القمـة أو الأوج، والأفول، لكنه لا يسلم بأنه مكـتوب أبدا على حضارة خفـت ضياؤها، وسدر أبناؤها في ليل طويل، أن لا تقوم لها بعد ذلك قائمة، لأن اليقظـة أو النهضـة مرهونـة في رأيـه بما نصـت عليه الآيـة القرآنـية: (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، ومعنى ذلك أن بعث الحضارة وولادتها من جديد، أمران ممكنان تماما، إذا ما توافرت بعض الشروط الإنسانية الذاتية.
الأمر الثاني: يتعلق بدورة الحضارة أيضا، لكن من جانب آخر، ويتعلق تحديدا بالإنسان في طور ما بعد الحضارة الذي وصل بـه الحال إلى أن يتفسخ حضاريـا، فهل يظل لديه الاستعداد لإنجاز عمل محضر أم لا !.. في نظر ابن نبي أن إنسان ما بعد الحضارة لديه هذا الاستعداد لكن بشروط.
ولا شك أن هناك مفارقات أخرى ستظهـر لو قمنا بما أطلق عليه جدعان بتحليل واستقصاء كبيرين في هذا الشأن.
almilad@almilad.org