الحلقة الثانية
تسلل شعاع الشمس المصفر من تحت عتبة الباب زاحفا بهمة لالتهام فراش مغبر نام عليه إبراهيم بعشوائية أظهرت سوءته، وكلما تمادت سطوة الشمس تكوم باتجاه الظل متحاشيا فتح عينيه وراغبا في مواصلة نوم متوتر تقطع بفيض حر ضاق به المكان، ولم يهزم أمام هواء مروحة تعلقت بالسقف تكمل دورتها بتلكؤ وطقطقة عاجزة عن إزاحة عرق انداح من نحر إبراهيم واستقر بين شعيرات صدره الأجرد فيما تكفل الفراش بتجفيف ما تصبب من جهات الجسد الملاصق لقماشته.
تأفف كثيرا قبل أن يفتح عينيه ليبصر عقرب ساعته (الصليب) متجاوزة الثانية غروبي، أصدر زمجرة مكبوتة ونهض مسرعا لارتداء ثوب تكسرت عطفاته وتناول شالا منقطا دأب على ارتدائه في المهمات الجليلة ــ كما يصفها ــ وهو لا يزال مشوش البال في قياس المدة الزمنية التي يحتاجها للوصول إلى مكة قبل فوات الأوان.
خرج كاتما زمجرته وصوت أميمة يلاحقه:
ــ انتظر أجهز لك شيئا تأكله.
كانت أفكاره تجري عبر ممرات مخيلته الرطبة، فتصل إلى المشاريع الآسنة مباشرة.
لم يصل إلى هدف محدد، إذ تنتهي خططه بكارثة ما، فبعد أن زج بأبيه في السجن وهو يرتطم يوميا بكارثة تكون ابنة شرعية لسقم ورخاوة تفكيره.
حرث الشارع بخطوات عجلة، بينما كانت مخيلته تحرث صورا ومواقف لِما يمكن حدوثه لو لم يصل إلى موعده المضروب مع وكيل أبيه، وكلما أعياه التقدير يتفوه بشتيمة لا يعرف لمن يوجهها تحديدا.
تجاوز سور المنطقة الرابعة القابعة بشارع طارق بن زياد باحثا عن سيارة تقله وهاجس ملح يلازمه بأن الوقت لن يسعفه في الوصول قبل انفضاض اللجنة المشكلة من قبل المحكمة للنظر في الدعوى المرفوعة على وزارة الأوقاف والبحث عن صلح يرضي الأطراف المتنازعة، وكلما تقاعس حفز نفسه على المضي وثمة دافع خفي يحرضه:
ــ لا عليك ستصل في الوقت المناسب.
ولئن كان مفوض المحكمة خبيرا في التملص من المواعيد، فإن عليه أن لا يزوده بالمبرر الذي سيلصق في لهاته كلما أظهر له تذمره من تأخر تثمين تعويضات منازلهم المطلة على باب السلام، والتي دخلت ضمن مشروع توسعة الحرم..
لم يكن يعلم بهذه التعويضات، ولولا أمر السجن المفاجئ لأبيه لظل سر هذه المنازل طي الكتمان، يعلم أن أباه لا يثق به بتاتا ولم يسند له متابعة أي أمر يخص العائلة. يسمع مع الناس أن أسرته ذات ثروة طائلة ويقابل ذلك بالتهكم..
في آخر زيارة وقف أمام زنزانة أبيه متلعثما وهو يستمع لحزمة من التقريع المتواصل فيما تفرغ الزوار والمساجين لسماع حديثهما وتوزيع أبصارهم بين وجهين، وجه حانق يقذف الكلمات ووجه خائر يترنح من شدة ما تلقاه من توبيخ، وجد نفسه حائرا وهو يحاول بعثرة شتائم أبيه بالتلفت يمنة ويسرى، أوقف شتائمه بسؤال مباغت:
ــ ماذا فعلت بشأن منازلنا في مكة؟
ــ ما زال الوضع على ماهو عليه.
نفر أبوه كمن يرغب اختراق قضبان الزنزانة:
ــ بتقاعسك هذا سوف تذهب منازلنا كما ذهب وقف عجيب.
تلجلجت إجابته واحتبست أنفاسه وقبل استعادته لتوازنه النفسي تلقى بصقة على خده الأيمن فاستقرت بين ضفتي جرحه العميق:
ــ والله ثم والله ستضيع أمجاد أسرتي على يديك.
حاول إبراهيم التبرؤ من هذه التهمة بادعاء عدم معرفة أي شيء يخص العائلة ومظهرا اللوم المبطن بما كان يمارس ضده من تعتيم، إلا أن ضحكة أبيه المستهجنة ألجمت كل الحجج التي تجمعت في رأسه:
ــ أنت لم تكن متفرغا إلا للتأنق والذهاب والغياب من مصر..
ــ أنت من كان......
ــ لا تتفوه بحماقات إضافية
وجد أن الحماقات تسيل من فمه فعلا، فها هو يجاور سالم أبو العينين في سيارته المتهالكة بعد أن أقنعه بإيصاله مقابل أجر مضاعف، وفيما كان يحثه على الإسراع أفشى له بكل التفاصيل التي دعته للذهاب لمكة في مثل هذا الوقت.
جحظت عينا سالم ومكث صامتا يدير حكاية الملايين التي ستهطل على هذا الشاب الأرعن مفكرا في وسيلة ما تجعله قريبا من منجم خرب على وشك أن تلمع حجارته ذهبا.
ألف إبراهيم على استرجاع أحاديث أبيه وترديدها سرا (لا تتفوه بحماقات إضافية)، فاعتراه الندم بما باح به وداهمته رغبة انتزاع ما ترسب في ذهن أبي العينين فظل طوال الطريق يكذب ما تفوه به في بداية صعوده للسيارة:
ــ لا تجزع. استودعت سرك داخل قبر لا يفتح بتاتا.. وأحسب أني عرفت بسر التعويضات بمحض المصادفة من غير قصد منك، فلا تقلق لن أخبر أحدا.
هذه الطمأنة الخارجة من فم أبي العينين لم ترق لإبراهيم بتاتا، فسعى لتخلص منه بأي طريقة كانت، وعندما وصل لهذا القرار استوقف سالم صائحا:
ــ أنزلني هنا.
ــ نحن في أم الدود ما زلنا على المشارف ولم نصل بعد إلى عمارة الأشراف.
أطلق إبراهيم ضحكة مرتفعة وهو يفتح باب السيارة ويغلقه على عجل:
ــ كذبت وفتحت شهيتك بادعاء التعويضات لكي توصلني، أما الآن فعد للبشكة واحكِ لهم عن هذا المقلب إن شئت.
وانطلق راكضا بين الأزقة تاركا أبا العينين يشتاط غضبا، وفمه يرخ بزخات من الشتائم.
** **
استقبله وكيل أبيه لائما تأخره وذهاب أعضاء اللجنة غير ناس سرد تفاصيل مجرى المعاملة التي توقفت في المحكمة الأولى بسبب ادعاء وزارة الأوقاف امتلاك صك حديث على جميع منازلهم الواقعة في مواجهة باب السلام.
ــ ألم تقل أن هناك من سيخلص هذه التشابكات.
ــ نعم سيخلصها مقابل نصف مليون ريال.. هل لديك هذا المبلغ؟!
جلس يفرك يده حائرا لا ينبت بشفه مقلبا عينيه في وجه الوكيل الذي ما فتئ يزوده بابتسامة عريضة تعترض أي محاولة للبحث عن مخرج يمكن الولوج منه:
ــ لولا سجن أبيك لربما استطاع التفاهم مع السمسار.
وكمن شق باب ضيق في صخر قفز:
ــ أبي يثق في تدبيرك فوجد لنا منفذا.
ــ ليس هناك من منفذ إلا ما أخبرتك به.
ووقف كمن رغب في إنهاء اللقاء.
ــ وماذا أقول للوالد؟!
ــ انقل له ما سمعت عله يخبرك أين يخبئ صفائح الذهب التي جمعها جدك ونستطيع دفع النصف مليون.
قبل أن يغادر المكتب كان الشك يخامره بأن وكيل أبيه يلعب لعبة قذرة تفوح رائحتها، إلا أنه لا يعلم تحديدا في أي منعطف يخبئ تلك القذارة.. ارتضى توديعه على أمل أن يخبره بأي جديد يحدث.
وجد نفسه يدور في موقف السيارات بحثا عن سيارة تقله لجدة، كان المكان مليئا بسيارات الأجرة المغادرة إلى جدة والطائف والرياض والمدن الجنوبية، لغط الباعة و(الكمسارية) وبوق السيارات أحدث ضجيجا متداخلا، وفي عجلته للوصول إلى سيارة أجرة أعلن مساعد السائق عن تحركها باكتمال راكب واحد فقط، فمد خطواته للحاق بها معلقا بصره في اتجاهها فلمح شخصا يدس جسده بداخلها مفوتا عليه أن يكون مكملا للعدد، فتباطأت خطواته حين اصطدمت به (حجة) تحمل وليدها خلف ظهرها ــ محزوما بفوطة فاقعة الألوان ــ وممسكة بيدها صحنا تمايل فوق رأسها رصت فيه بضاعتها المنوعة، وعارضة عليه شراء (قورة)، حدق في وجهها المشرط فرأى وجه محمدوه يتجسد في ومضة عينيها، كظم غيضا دفينا وهو يتذكره ويكز على أسنانه على تلك الذكرى الحارقة لاعنا كل جنس انتمى إليه ذلك المحمدوه البغيض، كانت عيناه تحدقان بالحجة لتقارب التشابه بينها وبين محمدوه، فعرض عليها وجهه مشيرا للجرح الغائر على خده الأيمن:
ــ تعرفين محمدوه
هزت رأسها بما لا يفهم منه نفيا أو موافقة محافظة على توازن صحنها مع إبقاء يدها ممدودة بحبيبات القورة تغريه بابتسامة عريضة ولغة مكسرة لشراء شيء منها إن لم يرغب في القورة..
ــ كيف يمكن تشريط وجهي مثلك؟
أحس بغباء سؤاله، وكانت ملامح الحجة تشي بتعثر فهمها فوضعت حبتين من القورة في يده، فأشار لتشريطات الساكنة على وجنتيها:
ــ لا أريد قورة.. أريد تعلم كيف أشرط وجها كهذه التشريطات..
ضرب جبهته بيده عندما حاولت الحجة إنزال صحنها من على رأسها، وعندما أعياه تفهيمها مد يده باتجاه وجهها المشرط ناويا تحوير سؤاله لأبسط صورة يمكن النطق بها:
وكهِرةٍ مدربة على الخمش تلقت ملامسة أنامله لخدها بصفعة مباغتة على وجهه انتفض لها واتقد غضبا لم يمهله السيطرة على أعصابه فبادلها صفعة بصفعة أطاحت بالصحن المتأرجح على رأسها وتناثرت بضاعتها على الأرض فارتفع صوتها صائحا مولولا، ليتحلق حولهما الركاب وتجذب البعيدين للاقتراب من تلك المرأة التي أبدت تأثرا مبالغا بإزاحة غطاء شعرها والاقتعاد على الأرض ممسكة برأسها ومطلقة كلمات لا يعرف منها شيء وإن طعمتها بكلمات عربية قليلة:
ــ أنا مسكين.. أنا حرمة.. أنا.........
تأثر لمنظرها جل الرجال معيبين على إبراهيم جرأته على إيذاء امرأة وانجذب للتجمع شخصان من بني جلدتها دفع أحدهما إبراهيم من كتفه:
ــ تتحرش بحرمة يا حرمة...
نبرتهما الحادة وحركتهما الجاذبة للنزال استفزته ودفعته لاتخاذ هيئة المستعد للعراك، فوضع يده على قرن الغزال المخبأ في جيبه السفلي محاولا إظهار حسن نيته من لمس خدها:
ــ كنت أسألها عن كيفية تشريط الوجه؟
كان عذره محل استهجان الجميع وتندرهم، وقد حاول البعض منهم إمداد المرأة بالماء وتجميع بضاعتها المبعثرة وتهدئة خاطرها وبقى البعض يشاهد تطور الجدل الناشئ بين إبراهيم والشخصيتين اللتين أحاطتا به:
ــ لا يا شيخ : تسأل عن كيفية التشريط؟
ظل إبراهيم متحفزا ومتأهبا تماما:
ــ وهل ترغب أن نتعلم التشريط في وجهك.
عندها أظهر إبراهيم مديته رافعا شفرتها الحادة في وجهيهما، فانعطف إليه أضخمهما جسدا ساخرا:
ــ لا.. لا.. أخفتنا..
وتراجع للخلف في حركة استخفاف واضحة وهو يشير للجرح الغائر في وجه إبراهيم:
ــ ترى جرحك بحاجة للتحسين ولا أضمن لك أن يكون جرحك القادم مثله تماما فغشامتي ستعري خدك الآخر من أي لحم وستبقي لك العظم فقط..
كاد ينشب بينهم عراك بالسكاكين لولا توسط المتجمهرين وإبعادهم عن بعضهم قبل الالتحام، فظل كل منهم يتقافز من بين أيدي الممسكين به لكي يصل إلى خصمه، وتنبه الجميع لنهوض المرأة من مقعدها وتوسطها حلبة الصراع صائحة بجمل لم تفهم في بادئ الأمر، إلا أن ظهور مجموعة من بني جلدتها ومحاصرتهم لإبراهيم وإحاطته جعلت لجملها معنى.
مجموعة كبيرة كانت تتبادل الكلمات الخشنة وملامحهم الغاضبة تظهر قسوة معناها، تبادلوا دفع إبراهيم ككيس رمل رخو وتدافعوا به لخارج موقف السيارات، تدخلهم الطارئ كان إشارة لانفضاض النزاع أمام المتجمهرين، بينما اختلف الوضع على بعد مسافة من ابتعادهم، إذ تخاطفته الأيدي والأرجل صفعا وركلا، كان يتلقى الضربات من كل جانب ولا يقدر على صدها أو مبادلتها لكما بلكم، فاستعاض عن عجزه باستثارة نخوته:
ــ لو كنتم رجاجيل راس براس.
وكلما سمِع صوته أو انتفض جسده تحت أيديهم أشبعوه ضربا، فتتراخى مقاومته ويذبل عنفوانه، ولم يصلوا به إلى حوض عربة يجرها حمار ــ متعاف ــ إلا وقد غدا جثة قابلة لأن تحمل إلى قبرها من غير خيار.
تقافز ثلاثة منهم لحوض العربة آمرين قائدها بالتريث ريثما يصل البقية، وانشغل أحدهم بتقليب جسد إبراهيم وإراقة الماء على وجه فيتقافز جسده كسمكة أخرجت من بحرها بكلاليب صنارة صدئة أبانت فما مفتوحا بالتهديد والوعيد وأخذ الثأر عاجلا أم أجلا، فتبسط الأيادي وتتكور منهية وعيده على توجع وأنين مرتفعين.
قفز أحدهم لمرمى القمامة متناولا لفافة خيش عريضة وغطى جسد إبراهيم كاملا بعد أن بصق على وجهه.
انتظارهم لم يطل طويلا، إذ ظهر الخصمان اللذان بدآ الشجار وبصحبتهما تلك المرأة التي ما زال ابنها محزوما خلف ظهرها، وصعدوا لحوض العربة مما مكن قائدها من استلال عصا تجاوره وألقى بها على ظهر الحمار فاستجاب للألم بانطلاقة مسرعة جعلت صلصلة أجراسه ترتفع وتتناغم مع ركضه المخترق للأزقة والشوارع والمعاكس لمسار السير.
اتسق سير العربة مع حركة السائرين من أول شارع المنصور ذي الضفتين المفترشتين بالمأكولات الأفريقية ذات النكهات الوخمة والرائحة الزخمة، وقد تناثر بشر في تموجات حركية متسقة في أعمالها وأصواتها متقافزين بين مساحات من الأرض المغطاة بالعيش الناشف والفصفص المنثور للتجفيف تجاوره أكوام من اللوز السوداني انشغل صبية في تقشيره، وثمة نساء يمدون رجالا بكسر الخبز الجاف لدقها وهرسها بهوند خشبي ضخم فيما تناثرت ملاحم لتجفيف وبيع لحم السارية وهناك مجاميع انشغلت بتكسير قرون الحبحبوه واستخراج لبه وتكويمه بجوار الدوم فيما حظيت أكوام نبات القورة بأكياس مبلولة تبقي على نضارتها ولمعانها...
استعاد إبراهيم قليلا من وعيه على أصوات ضجة شارع المنصور، ولم يعرف موقعه إلا بالزحف للأمام ليخرج رأسه من غطاء الخيش المسدل عليه، تنقل بعينيه محاولا التركيز فعلم موقعه بعد جهد مضن بذله زحفا، كانت عيناه تتنقلان بين المشاهد الراكضة للخلف، ومع رؤيته لمشاهد المنشغلين بأعمالهم وقراءة لوحات بعض المتاجر حدد موقعه، إذ كان يعرف تفاصيل هذه المنطقة كثيرا فلطالما استجاب لدعوات لعب المزمار في حارة الحفاير، استشعر بثقل حركة جسده الموثوق والمشدود برباط احتجز كتفيه وساعديه للخلف وانتهى بتكبيل قدميه فغدت حركته تقتضي تحريك جسده كاملا، لمح أحد خصومه منشغلا بتبادل الحديث مع شخص لم يتمكن من رؤيته، وقدر أن من معه يتجاوزون الثلاثة كان عاجزا عن تقرير ماذا يفعل؟ فحرص على الإصغاء لِمَ يتحدث به خصومه، تبين أنه لن يصل إلى فهم ما يقال فحديثهم النادر يخرج بلغة قدر لها أن تكون هوساوية أو برناوية، أغمض عينيه عندما امتدت يد أحدهما لتعيد تغطية رأسه مع زمجرة وجملة طويلة قالها صاحب اليد الممدودة.. ففقد رؤية الأماكن التي تعبرها تلك العربة المسرعة.
في ظلمته تلك كان حقده يزداد على محمدوه فيحيك في مخيلته أبشع صور لانتقام يمكن تنفيذه بذلك الوغد الذي ترك له تشوها لن يمحَ، ودائما تنشط مخيلته وتصل به إلى فكرة قتله إن استطاع إلى ذلك سبيلا، وعند هذا الحد تهدأ ضغينته.
انتابته حالة تحقير لتفكيره المستقبلي وتناسيه للفخ العالق به:
ــ هؤلاء الأرذال إلى أين يذهبون بي؟
شعر بالندم لتفريطه بشفرته أثناء التدافع، وقرر مباغتتهم بقذف نفسه من حوض العربة دفعة واحدة إما أن تدق عنقه أو يتجمع حولهم الناس فيتمكن من رؤية خصومه وعددهم، وكيف يمكن له الدفاع عن نفسه بدلا من أن يقاد كبهيمة لا تقدر على المناطحة وصل لهذا القرار بعد فوات الأوان، إذ تباطأ السير وتقافز من معه محدثين جلبة بأصواتهم المتداخلة.. وتخاطفته الأيدي من حوض العربة وألقوا به أرضا فأصدر صيحة ثقيلة لسقوطه على كتفه مباشرة..
كان شحوب دخول الليل حاضرا، فلمح فناء واسعا تناثر به الصبية والرجال والنساء، وعلى جنباته أقيمت غرف عشوائية من الحجر الصوان تراكبت فوق بعضها من غير أسمنت يمسك بعثرتها أو طلاء يستر سوادها، وفي الجزء الخلفي استقرت صندقتان أقيمتا على دعائم خشبية وغطت بالزنك وأمامها اقتعدت مجموعة للعب الدومينو حف بهم المشجعون الذين توقفت صيحاتهم مع ارتفاع صوت رجل مسن بينهم، فيما انشغلت بعض النسوة بإشعال الأتاريك والفوانيس، فظهر ضوؤها نائيا وتوالدت مساحة الفناء الشاسع أخيلة وقامات أخذت في الدنو والتمتمة..
كان إبراهيم يئن تحت قدم خصمه الضخم ولسانه تطلق الشتائم العاجزة التي تعالت مع تخلي خصمه عن فرك عنقه، واستقباله للرجل المسن باحترام وطأطأة رأس، تبادلا كلمات خافتة انتهت بتقدم المرأة ذات الوجه المشرط، وهي تفك رباط الفوطة من على عاتقها وتستعيد طفلها إلى حضنها متطلعة لإبراهيم بتشفٍّ ومستجيبة لحديث الرجل المسن بالوقوف في مواجهة خصمها فيما ناولها شخص آخر موس قضمت عليه بأسنانها البيضاء وأسلمت ابنها لإحدى النساء اللاتي تقدمت لحمله، استشعر إبراهيم بالخطر المحدق به حين ارتفعت دمدمة صدرت من أفواه المجتمعين، وهم يحثونه بالتراب ويتقدم كل فرد منهم بالبصق في وجهه وتحريض الصبية على التبول على رأسه بعد أن جذبه شابان وأوثقا رباطه بكرسي تخلخلت قاعدته.
أحس إبراهيم أن أحدا في الكون لم يهن هذه الإهانة الجماعية، وفكر في مواصلة شتائمه، إلا أن شرر الغضب المتقافز من تلك العيون المحدقة به جعلته يعاود التفكير ويظهر الاستعطاف على الأقل للرجل المسن، فهو صاحب القرار كما يبدو، حاول أن تلتقي عيناهما إلا أن انشغال الرجل المسن باستكمال طقوسه لم تمكنه من ذلك، فرفع صوته:
ــ لم أفعل فعلا يستوجب كل هذا.
ــ ....................
ــ وإن فعلت فلكم ما يطيب به خاطركم..
ذهب صوته إلى قرار بئر سحيق، إذ ساد الصمت وتعلقت العيون بقائدهم المسن الذي تقدم نحو إبراهيم حاملا ميسما غرسه في مفرق رأسه واستدار نحو المجتمعين فحدثهم بكلمات سريعة قاسية المخارج، فارتفعت لها حناجر الحضور بدمدمة غامضة انتهت بمناولة الرجل المسن مقصا جز به شعر ناصية إبراهيم مصدرا إيماءة للجميع ومبتعدا عن المكان.
ارتفعت الصيحات وانهال التراب من كل صوب وعلى أضواء الأتاريك بدت حبيبات التراب العالقة في الضوء كجيش احتدم في معركة ضارية، لم تنبلج نهايتها إلا على صبي صغير اقتعد الأرض وبيده أبريق يرش ماءه على تراب خلط معه قليل من أعشاب قدمت إليه حتى استوت عجينته كورها وناولها للمرأة المصفوعة، التي سرعان ما استلت الموس من بين أسنانها وأمسكت بالعجينة متمتمة وابتلعتها على مهل، وتقدمت لمواجهة إبراهيم وجها لوجه، وتحرك ذو الجثة الضخمة بإمساك إبراهيم من شعره وجذبه للخلف بعنف، تقدمت المرأة بثبات غارسة الموس من عند الجبهة ومعمقة نصله وبلمحة خاطفة سحبته لنهاية الذقن، فصرخ إبراهيم صرخة لم تكن بأقل ضراوة مما تبعها من صرخات، إذ واصلت المرأة إعادة فعلها ست مرات مقسمة التشليخات بالتساوي على خدي إبراهيم...
تدفق دم وأنين غزيران، ومع كل شلخ تتعالى صيحات الحضور حبورا ونشوة. كان إبراهيم قد غاب عن الوعي وعاد لهيئة الجثة التي لم يعد لها الخيار في تحديد القبر الذي ستدفن فيه.
وفي عجلة منسقة، قام كل فرد من الحضور بدوره لإتمامها وضع إبراهيم داخل حوض العربة، وانطلقوا به لخارج الفناء سالكين تعرجات حادة بمنحدراتها ومبتعدين قدر الإمكان عن موقعهم حتى إذ اطمأنوا للمكان الذي قصدوه، قذفوا بإبراهيم على قارعة الطريق وعادوا من حيث أتوا.
لا يعرف إبراهيم مقدار الدماء التي سفكها أو الوقت الذي أمضاه غائبا عن الوعي، فها هي الشمس ولليوم الثاني توقظه بأشعتها الحارقة، فيتكوم هربا من لظاها متحاشيا فتح عينيه، والفرق بين الحالتين أن العرق في الحالة الأولى كان يجرى من نحره لصدره، بينما الآن يجرى الدم من وجهه إلى كل جسده.
كانت الأقدام تعبره متطلعة إليه بعجب ووساوس الظنون تبعدها عنه، فنهض بصعوبة محاولا إزاحة الدماء الملبدة على وجهه، كان منظره يثير الرعب فيبتعد عنه المارة خشية من التصاق تهمة إصابته بهم، أحد المارة أبلغه وعلى عجل بوجود ماء سبيل في نهاية الشارع وابتعد عنه مسرعا، فتحامل في سيره إلى أن بلغ منحنى قبع في جوف الشارع فوجد زيرا رفع غطاءه وغمس رأسه كاملا متأوها ومستقذرا لبد الدم المتجمد على وجهه وبين يديه، احتاج لوقت ليس بالقصير لإزالة الدماء العالقة وارتمى جانبا متفحصا بقية جسده ومتحاملا على أوجاعه، وكلما حاول تحديد موقعه تقطر الدم فأغشى عينيه حتى ظن أنهما خرجتا.. وبصعوبة بالغة تحقق أنه يجلس على أطراف حارة الطندباوي.
تسلل شعاع الشمس المصفر من تحت عتبة الباب زاحفا بهمة لالتهام فراش مغبر نام عليه إبراهيم بعشوائية أظهرت سوءته، وكلما تمادت سطوة الشمس تكوم باتجاه الظل متحاشيا فتح عينيه وراغبا في مواصلة نوم متوتر تقطع بفيض حر ضاق به المكان، ولم يهزم أمام هواء مروحة تعلقت بالسقف تكمل دورتها بتلكؤ وطقطقة عاجزة عن إزاحة عرق انداح من نحر إبراهيم واستقر بين شعيرات صدره الأجرد فيما تكفل الفراش بتجفيف ما تصبب من جهات الجسد الملاصق لقماشته.
تأفف كثيرا قبل أن يفتح عينيه ليبصر عقرب ساعته (الصليب) متجاوزة الثانية غروبي، أصدر زمجرة مكبوتة ونهض مسرعا لارتداء ثوب تكسرت عطفاته وتناول شالا منقطا دأب على ارتدائه في المهمات الجليلة ــ كما يصفها ــ وهو لا يزال مشوش البال في قياس المدة الزمنية التي يحتاجها للوصول إلى مكة قبل فوات الأوان.
خرج كاتما زمجرته وصوت أميمة يلاحقه:
ــ انتظر أجهز لك شيئا تأكله.
كانت أفكاره تجري عبر ممرات مخيلته الرطبة، فتصل إلى المشاريع الآسنة مباشرة.
لم يصل إلى هدف محدد، إذ تنتهي خططه بكارثة ما، فبعد أن زج بأبيه في السجن وهو يرتطم يوميا بكارثة تكون ابنة شرعية لسقم ورخاوة تفكيره.
حرث الشارع بخطوات عجلة، بينما كانت مخيلته تحرث صورا ومواقف لِما يمكن حدوثه لو لم يصل إلى موعده المضروب مع وكيل أبيه، وكلما أعياه التقدير يتفوه بشتيمة لا يعرف لمن يوجهها تحديدا.
تجاوز سور المنطقة الرابعة القابعة بشارع طارق بن زياد باحثا عن سيارة تقله وهاجس ملح يلازمه بأن الوقت لن يسعفه في الوصول قبل انفضاض اللجنة المشكلة من قبل المحكمة للنظر في الدعوى المرفوعة على وزارة الأوقاف والبحث عن صلح يرضي الأطراف المتنازعة، وكلما تقاعس حفز نفسه على المضي وثمة دافع خفي يحرضه:
ــ لا عليك ستصل في الوقت المناسب.
ولئن كان مفوض المحكمة خبيرا في التملص من المواعيد، فإن عليه أن لا يزوده بالمبرر الذي سيلصق في لهاته كلما أظهر له تذمره من تأخر تثمين تعويضات منازلهم المطلة على باب السلام، والتي دخلت ضمن مشروع توسعة الحرم..
لم يكن يعلم بهذه التعويضات، ولولا أمر السجن المفاجئ لأبيه لظل سر هذه المنازل طي الكتمان، يعلم أن أباه لا يثق به بتاتا ولم يسند له متابعة أي أمر يخص العائلة. يسمع مع الناس أن أسرته ذات ثروة طائلة ويقابل ذلك بالتهكم..
في آخر زيارة وقف أمام زنزانة أبيه متلعثما وهو يستمع لحزمة من التقريع المتواصل فيما تفرغ الزوار والمساجين لسماع حديثهما وتوزيع أبصارهم بين وجهين، وجه حانق يقذف الكلمات ووجه خائر يترنح من شدة ما تلقاه من توبيخ، وجد نفسه حائرا وهو يحاول بعثرة شتائم أبيه بالتلفت يمنة ويسرى، أوقف شتائمه بسؤال مباغت:
ــ ماذا فعلت بشأن منازلنا في مكة؟
ــ ما زال الوضع على ماهو عليه.
نفر أبوه كمن يرغب اختراق قضبان الزنزانة:
ــ بتقاعسك هذا سوف تذهب منازلنا كما ذهب وقف عجيب.
تلجلجت إجابته واحتبست أنفاسه وقبل استعادته لتوازنه النفسي تلقى بصقة على خده الأيمن فاستقرت بين ضفتي جرحه العميق:
ــ والله ثم والله ستضيع أمجاد أسرتي على يديك.
حاول إبراهيم التبرؤ من هذه التهمة بادعاء عدم معرفة أي شيء يخص العائلة ومظهرا اللوم المبطن بما كان يمارس ضده من تعتيم، إلا أن ضحكة أبيه المستهجنة ألجمت كل الحجج التي تجمعت في رأسه:
ــ أنت لم تكن متفرغا إلا للتأنق والذهاب والغياب من مصر..
ــ أنت من كان......
ــ لا تتفوه بحماقات إضافية
وجد أن الحماقات تسيل من فمه فعلا، فها هو يجاور سالم أبو العينين في سيارته المتهالكة بعد أن أقنعه بإيصاله مقابل أجر مضاعف، وفيما كان يحثه على الإسراع أفشى له بكل التفاصيل التي دعته للذهاب لمكة في مثل هذا الوقت.
جحظت عينا سالم ومكث صامتا يدير حكاية الملايين التي ستهطل على هذا الشاب الأرعن مفكرا في وسيلة ما تجعله قريبا من منجم خرب على وشك أن تلمع حجارته ذهبا.
ألف إبراهيم على استرجاع أحاديث أبيه وترديدها سرا (لا تتفوه بحماقات إضافية)، فاعتراه الندم بما باح به وداهمته رغبة انتزاع ما ترسب في ذهن أبي العينين فظل طوال الطريق يكذب ما تفوه به في بداية صعوده للسيارة:
ــ لا تجزع. استودعت سرك داخل قبر لا يفتح بتاتا.. وأحسب أني عرفت بسر التعويضات بمحض المصادفة من غير قصد منك، فلا تقلق لن أخبر أحدا.
هذه الطمأنة الخارجة من فم أبي العينين لم ترق لإبراهيم بتاتا، فسعى لتخلص منه بأي طريقة كانت، وعندما وصل لهذا القرار استوقف سالم صائحا:
ــ أنزلني هنا.
ــ نحن في أم الدود ما زلنا على المشارف ولم نصل بعد إلى عمارة الأشراف.
أطلق إبراهيم ضحكة مرتفعة وهو يفتح باب السيارة ويغلقه على عجل:
ــ كذبت وفتحت شهيتك بادعاء التعويضات لكي توصلني، أما الآن فعد للبشكة واحكِ لهم عن هذا المقلب إن شئت.
وانطلق راكضا بين الأزقة تاركا أبا العينين يشتاط غضبا، وفمه يرخ بزخات من الشتائم.
** **
استقبله وكيل أبيه لائما تأخره وذهاب أعضاء اللجنة غير ناس سرد تفاصيل مجرى المعاملة التي توقفت في المحكمة الأولى بسبب ادعاء وزارة الأوقاف امتلاك صك حديث على جميع منازلهم الواقعة في مواجهة باب السلام.
ــ ألم تقل أن هناك من سيخلص هذه التشابكات.
ــ نعم سيخلصها مقابل نصف مليون ريال.. هل لديك هذا المبلغ؟!
جلس يفرك يده حائرا لا ينبت بشفه مقلبا عينيه في وجه الوكيل الذي ما فتئ يزوده بابتسامة عريضة تعترض أي محاولة للبحث عن مخرج يمكن الولوج منه:
ــ لولا سجن أبيك لربما استطاع التفاهم مع السمسار.
وكمن شق باب ضيق في صخر قفز:
ــ أبي يثق في تدبيرك فوجد لنا منفذا.
ــ ليس هناك من منفذ إلا ما أخبرتك به.
ووقف كمن رغب في إنهاء اللقاء.
ــ وماذا أقول للوالد؟!
ــ انقل له ما سمعت عله يخبرك أين يخبئ صفائح الذهب التي جمعها جدك ونستطيع دفع النصف مليون.
قبل أن يغادر المكتب كان الشك يخامره بأن وكيل أبيه يلعب لعبة قذرة تفوح رائحتها، إلا أنه لا يعلم تحديدا في أي منعطف يخبئ تلك القذارة.. ارتضى توديعه على أمل أن يخبره بأي جديد يحدث.
وجد نفسه يدور في موقف السيارات بحثا عن سيارة تقله لجدة، كان المكان مليئا بسيارات الأجرة المغادرة إلى جدة والطائف والرياض والمدن الجنوبية، لغط الباعة و(الكمسارية) وبوق السيارات أحدث ضجيجا متداخلا، وفي عجلته للوصول إلى سيارة أجرة أعلن مساعد السائق عن تحركها باكتمال راكب واحد فقط، فمد خطواته للحاق بها معلقا بصره في اتجاهها فلمح شخصا يدس جسده بداخلها مفوتا عليه أن يكون مكملا للعدد، فتباطأت خطواته حين اصطدمت به (حجة) تحمل وليدها خلف ظهرها ــ محزوما بفوطة فاقعة الألوان ــ وممسكة بيدها صحنا تمايل فوق رأسها رصت فيه بضاعتها المنوعة، وعارضة عليه شراء (قورة)، حدق في وجهها المشرط فرأى وجه محمدوه يتجسد في ومضة عينيها، كظم غيضا دفينا وهو يتذكره ويكز على أسنانه على تلك الذكرى الحارقة لاعنا كل جنس انتمى إليه ذلك المحمدوه البغيض، كانت عيناه تحدقان بالحجة لتقارب التشابه بينها وبين محمدوه، فعرض عليها وجهه مشيرا للجرح الغائر على خده الأيمن:
ــ تعرفين محمدوه
هزت رأسها بما لا يفهم منه نفيا أو موافقة محافظة على توازن صحنها مع إبقاء يدها ممدودة بحبيبات القورة تغريه بابتسامة عريضة ولغة مكسرة لشراء شيء منها إن لم يرغب في القورة..
ــ كيف يمكن تشريط وجهي مثلك؟
أحس بغباء سؤاله، وكانت ملامح الحجة تشي بتعثر فهمها فوضعت حبتين من القورة في يده، فأشار لتشريطات الساكنة على وجنتيها:
ــ لا أريد قورة.. أريد تعلم كيف أشرط وجها كهذه التشريطات..
ضرب جبهته بيده عندما حاولت الحجة إنزال صحنها من على رأسها، وعندما أعياه تفهيمها مد يده باتجاه وجهها المشرط ناويا تحوير سؤاله لأبسط صورة يمكن النطق بها:
وكهِرةٍ مدربة على الخمش تلقت ملامسة أنامله لخدها بصفعة مباغتة على وجهه انتفض لها واتقد غضبا لم يمهله السيطرة على أعصابه فبادلها صفعة بصفعة أطاحت بالصحن المتأرجح على رأسها وتناثرت بضاعتها على الأرض فارتفع صوتها صائحا مولولا، ليتحلق حولهما الركاب وتجذب البعيدين للاقتراب من تلك المرأة التي أبدت تأثرا مبالغا بإزاحة غطاء شعرها والاقتعاد على الأرض ممسكة برأسها ومطلقة كلمات لا يعرف منها شيء وإن طعمتها بكلمات عربية قليلة:
ــ أنا مسكين.. أنا حرمة.. أنا.........
تأثر لمنظرها جل الرجال معيبين على إبراهيم جرأته على إيذاء امرأة وانجذب للتجمع شخصان من بني جلدتها دفع أحدهما إبراهيم من كتفه:
ــ تتحرش بحرمة يا حرمة...
نبرتهما الحادة وحركتهما الجاذبة للنزال استفزته ودفعته لاتخاذ هيئة المستعد للعراك، فوضع يده على قرن الغزال المخبأ في جيبه السفلي محاولا إظهار حسن نيته من لمس خدها:
ــ كنت أسألها عن كيفية تشريط الوجه؟
كان عذره محل استهجان الجميع وتندرهم، وقد حاول البعض منهم إمداد المرأة بالماء وتجميع بضاعتها المبعثرة وتهدئة خاطرها وبقى البعض يشاهد تطور الجدل الناشئ بين إبراهيم والشخصيتين اللتين أحاطتا به:
ــ لا يا شيخ : تسأل عن كيفية التشريط؟
ظل إبراهيم متحفزا ومتأهبا تماما:
ــ وهل ترغب أن نتعلم التشريط في وجهك.
عندها أظهر إبراهيم مديته رافعا شفرتها الحادة في وجهيهما، فانعطف إليه أضخمهما جسدا ساخرا:
ــ لا.. لا.. أخفتنا..
وتراجع للخلف في حركة استخفاف واضحة وهو يشير للجرح الغائر في وجه إبراهيم:
ــ ترى جرحك بحاجة للتحسين ولا أضمن لك أن يكون جرحك القادم مثله تماما فغشامتي ستعري خدك الآخر من أي لحم وستبقي لك العظم فقط..
كاد ينشب بينهم عراك بالسكاكين لولا توسط المتجمهرين وإبعادهم عن بعضهم قبل الالتحام، فظل كل منهم يتقافز من بين أيدي الممسكين به لكي يصل إلى خصمه، وتنبه الجميع لنهوض المرأة من مقعدها وتوسطها حلبة الصراع صائحة بجمل لم تفهم في بادئ الأمر، إلا أن ظهور مجموعة من بني جلدتها ومحاصرتهم لإبراهيم وإحاطته جعلت لجملها معنى.
مجموعة كبيرة كانت تتبادل الكلمات الخشنة وملامحهم الغاضبة تظهر قسوة معناها، تبادلوا دفع إبراهيم ككيس رمل رخو وتدافعوا به لخارج موقف السيارات، تدخلهم الطارئ كان إشارة لانفضاض النزاع أمام المتجمهرين، بينما اختلف الوضع على بعد مسافة من ابتعادهم، إذ تخاطفته الأيدي والأرجل صفعا وركلا، كان يتلقى الضربات من كل جانب ولا يقدر على صدها أو مبادلتها لكما بلكم، فاستعاض عن عجزه باستثارة نخوته:
ــ لو كنتم رجاجيل راس براس.
وكلما سمِع صوته أو انتفض جسده تحت أيديهم أشبعوه ضربا، فتتراخى مقاومته ويذبل عنفوانه، ولم يصلوا به إلى حوض عربة يجرها حمار ــ متعاف ــ إلا وقد غدا جثة قابلة لأن تحمل إلى قبرها من غير خيار.
تقافز ثلاثة منهم لحوض العربة آمرين قائدها بالتريث ريثما يصل البقية، وانشغل أحدهم بتقليب جسد إبراهيم وإراقة الماء على وجه فيتقافز جسده كسمكة أخرجت من بحرها بكلاليب صنارة صدئة أبانت فما مفتوحا بالتهديد والوعيد وأخذ الثأر عاجلا أم أجلا، فتبسط الأيادي وتتكور منهية وعيده على توجع وأنين مرتفعين.
قفز أحدهم لمرمى القمامة متناولا لفافة خيش عريضة وغطى جسد إبراهيم كاملا بعد أن بصق على وجهه.
انتظارهم لم يطل طويلا، إذ ظهر الخصمان اللذان بدآ الشجار وبصحبتهما تلك المرأة التي ما زال ابنها محزوما خلف ظهرها، وصعدوا لحوض العربة مما مكن قائدها من استلال عصا تجاوره وألقى بها على ظهر الحمار فاستجاب للألم بانطلاقة مسرعة جعلت صلصلة أجراسه ترتفع وتتناغم مع ركضه المخترق للأزقة والشوارع والمعاكس لمسار السير.
اتسق سير العربة مع حركة السائرين من أول شارع المنصور ذي الضفتين المفترشتين بالمأكولات الأفريقية ذات النكهات الوخمة والرائحة الزخمة، وقد تناثر بشر في تموجات حركية متسقة في أعمالها وأصواتها متقافزين بين مساحات من الأرض المغطاة بالعيش الناشف والفصفص المنثور للتجفيف تجاوره أكوام من اللوز السوداني انشغل صبية في تقشيره، وثمة نساء يمدون رجالا بكسر الخبز الجاف لدقها وهرسها بهوند خشبي ضخم فيما تناثرت ملاحم لتجفيف وبيع لحم السارية وهناك مجاميع انشغلت بتكسير قرون الحبحبوه واستخراج لبه وتكويمه بجوار الدوم فيما حظيت أكوام نبات القورة بأكياس مبلولة تبقي على نضارتها ولمعانها...
استعاد إبراهيم قليلا من وعيه على أصوات ضجة شارع المنصور، ولم يعرف موقعه إلا بالزحف للأمام ليخرج رأسه من غطاء الخيش المسدل عليه، تنقل بعينيه محاولا التركيز فعلم موقعه بعد جهد مضن بذله زحفا، كانت عيناه تتنقلان بين المشاهد الراكضة للخلف، ومع رؤيته لمشاهد المنشغلين بأعمالهم وقراءة لوحات بعض المتاجر حدد موقعه، إذ كان يعرف تفاصيل هذه المنطقة كثيرا فلطالما استجاب لدعوات لعب المزمار في حارة الحفاير، استشعر بثقل حركة جسده الموثوق والمشدود برباط احتجز كتفيه وساعديه للخلف وانتهى بتكبيل قدميه فغدت حركته تقتضي تحريك جسده كاملا، لمح أحد خصومه منشغلا بتبادل الحديث مع شخص لم يتمكن من رؤيته، وقدر أن من معه يتجاوزون الثلاثة كان عاجزا عن تقرير ماذا يفعل؟ فحرص على الإصغاء لِمَ يتحدث به خصومه، تبين أنه لن يصل إلى فهم ما يقال فحديثهم النادر يخرج بلغة قدر لها أن تكون هوساوية أو برناوية، أغمض عينيه عندما امتدت يد أحدهما لتعيد تغطية رأسه مع زمجرة وجملة طويلة قالها صاحب اليد الممدودة.. ففقد رؤية الأماكن التي تعبرها تلك العربة المسرعة.
في ظلمته تلك كان حقده يزداد على محمدوه فيحيك في مخيلته أبشع صور لانتقام يمكن تنفيذه بذلك الوغد الذي ترك له تشوها لن يمحَ، ودائما تنشط مخيلته وتصل به إلى فكرة قتله إن استطاع إلى ذلك سبيلا، وعند هذا الحد تهدأ ضغينته.
انتابته حالة تحقير لتفكيره المستقبلي وتناسيه للفخ العالق به:
ــ هؤلاء الأرذال إلى أين يذهبون بي؟
شعر بالندم لتفريطه بشفرته أثناء التدافع، وقرر مباغتتهم بقذف نفسه من حوض العربة دفعة واحدة إما أن تدق عنقه أو يتجمع حولهم الناس فيتمكن من رؤية خصومه وعددهم، وكيف يمكن له الدفاع عن نفسه بدلا من أن يقاد كبهيمة لا تقدر على المناطحة وصل لهذا القرار بعد فوات الأوان، إذ تباطأ السير وتقافز من معه محدثين جلبة بأصواتهم المتداخلة.. وتخاطفته الأيدي من حوض العربة وألقوا به أرضا فأصدر صيحة ثقيلة لسقوطه على كتفه مباشرة..
كان شحوب دخول الليل حاضرا، فلمح فناء واسعا تناثر به الصبية والرجال والنساء، وعلى جنباته أقيمت غرف عشوائية من الحجر الصوان تراكبت فوق بعضها من غير أسمنت يمسك بعثرتها أو طلاء يستر سوادها، وفي الجزء الخلفي استقرت صندقتان أقيمتا على دعائم خشبية وغطت بالزنك وأمامها اقتعدت مجموعة للعب الدومينو حف بهم المشجعون الذين توقفت صيحاتهم مع ارتفاع صوت رجل مسن بينهم، فيما انشغلت بعض النسوة بإشعال الأتاريك والفوانيس، فظهر ضوؤها نائيا وتوالدت مساحة الفناء الشاسع أخيلة وقامات أخذت في الدنو والتمتمة..
كان إبراهيم يئن تحت قدم خصمه الضخم ولسانه تطلق الشتائم العاجزة التي تعالت مع تخلي خصمه عن فرك عنقه، واستقباله للرجل المسن باحترام وطأطأة رأس، تبادلا كلمات خافتة انتهت بتقدم المرأة ذات الوجه المشرط، وهي تفك رباط الفوطة من على عاتقها وتستعيد طفلها إلى حضنها متطلعة لإبراهيم بتشفٍّ ومستجيبة لحديث الرجل المسن بالوقوف في مواجهة خصمها فيما ناولها شخص آخر موس قضمت عليه بأسنانها البيضاء وأسلمت ابنها لإحدى النساء اللاتي تقدمت لحمله، استشعر إبراهيم بالخطر المحدق به حين ارتفعت دمدمة صدرت من أفواه المجتمعين، وهم يحثونه بالتراب ويتقدم كل فرد منهم بالبصق في وجهه وتحريض الصبية على التبول على رأسه بعد أن جذبه شابان وأوثقا رباطه بكرسي تخلخلت قاعدته.
أحس إبراهيم أن أحدا في الكون لم يهن هذه الإهانة الجماعية، وفكر في مواصلة شتائمه، إلا أن شرر الغضب المتقافز من تلك العيون المحدقة به جعلته يعاود التفكير ويظهر الاستعطاف على الأقل للرجل المسن، فهو صاحب القرار كما يبدو، حاول أن تلتقي عيناهما إلا أن انشغال الرجل المسن باستكمال طقوسه لم تمكنه من ذلك، فرفع صوته:
ــ لم أفعل فعلا يستوجب كل هذا.
ــ ....................
ــ وإن فعلت فلكم ما يطيب به خاطركم..
ذهب صوته إلى قرار بئر سحيق، إذ ساد الصمت وتعلقت العيون بقائدهم المسن الذي تقدم نحو إبراهيم حاملا ميسما غرسه في مفرق رأسه واستدار نحو المجتمعين فحدثهم بكلمات سريعة قاسية المخارج، فارتفعت لها حناجر الحضور بدمدمة غامضة انتهت بمناولة الرجل المسن مقصا جز به شعر ناصية إبراهيم مصدرا إيماءة للجميع ومبتعدا عن المكان.
ارتفعت الصيحات وانهال التراب من كل صوب وعلى أضواء الأتاريك بدت حبيبات التراب العالقة في الضوء كجيش احتدم في معركة ضارية، لم تنبلج نهايتها إلا على صبي صغير اقتعد الأرض وبيده أبريق يرش ماءه على تراب خلط معه قليل من أعشاب قدمت إليه حتى استوت عجينته كورها وناولها للمرأة المصفوعة، التي سرعان ما استلت الموس من بين أسنانها وأمسكت بالعجينة متمتمة وابتلعتها على مهل، وتقدمت لمواجهة إبراهيم وجها لوجه، وتحرك ذو الجثة الضخمة بإمساك إبراهيم من شعره وجذبه للخلف بعنف، تقدمت المرأة بثبات غارسة الموس من عند الجبهة ومعمقة نصله وبلمحة خاطفة سحبته لنهاية الذقن، فصرخ إبراهيم صرخة لم تكن بأقل ضراوة مما تبعها من صرخات، إذ واصلت المرأة إعادة فعلها ست مرات مقسمة التشليخات بالتساوي على خدي إبراهيم...
تدفق دم وأنين غزيران، ومع كل شلخ تتعالى صيحات الحضور حبورا ونشوة. كان إبراهيم قد غاب عن الوعي وعاد لهيئة الجثة التي لم يعد لها الخيار في تحديد القبر الذي ستدفن فيه.
وفي عجلة منسقة، قام كل فرد من الحضور بدوره لإتمامها وضع إبراهيم داخل حوض العربة، وانطلقوا به لخارج الفناء سالكين تعرجات حادة بمنحدراتها ومبتعدين قدر الإمكان عن موقعهم حتى إذ اطمأنوا للمكان الذي قصدوه، قذفوا بإبراهيم على قارعة الطريق وعادوا من حيث أتوا.
لا يعرف إبراهيم مقدار الدماء التي سفكها أو الوقت الذي أمضاه غائبا عن الوعي، فها هي الشمس ولليوم الثاني توقظه بأشعتها الحارقة، فيتكوم هربا من لظاها متحاشيا فتح عينيه، والفرق بين الحالتين أن العرق في الحالة الأولى كان يجرى من نحره لصدره، بينما الآن يجرى الدم من وجهه إلى كل جسده.
كانت الأقدام تعبره متطلعة إليه بعجب ووساوس الظنون تبعدها عنه، فنهض بصعوبة محاولا إزاحة الدماء الملبدة على وجهه، كان منظره يثير الرعب فيبتعد عنه المارة خشية من التصاق تهمة إصابته بهم، أحد المارة أبلغه وعلى عجل بوجود ماء سبيل في نهاية الشارع وابتعد عنه مسرعا، فتحامل في سيره إلى أن بلغ منحنى قبع في جوف الشارع فوجد زيرا رفع غطاءه وغمس رأسه كاملا متأوها ومستقذرا لبد الدم المتجمد على وجهه وبين يديه، احتاج لوقت ليس بالقصير لإزالة الدماء العالقة وارتمى جانبا متفحصا بقية جسده ومتحاملا على أوجاعه، وكلما حاول تحديد موقعه تقطر الدم فأغشى عينيه حتى ظن أنهما خرجتا.. وبصعوبة بالغة تحقق أنه يجلس على أطراف حارة الطندباوي.