-A +A
شوقي بزيع
لطالما سكنني شعور راسخ بأن العرب هم أمة العشق والحب بامتياز. وهذا الشعور بالطبع ليس ضربا من ضروب التوهم أو الشوفينية القومية، بل هو يجد جذوره ومسوغاته في احتكار النساء الجاهليات لمطالع المعلقات والقصائد، وفي الثنائيات المضروبة بالجنون والموت في العصر الأموي، والتي تركت بصماتها الملموسة في شعر التروبادور الفروسي في القرون الوسطى، كما في الشعر الفارسي وغيره. وحين يعود المرء إلى نصوص الحب العذري الأموي سيذهله ــ دون شك ــ ذلك الانسياب التعبيري المثخن بالوجد وألم الفراق، وذلك التوله العاطفي الذي يثلم القلب والمخيلة. لا بل سيصعب على القارئ العثور على كلمة نافرة أو جملة معقدة. بينما سيعييه في الوقت نفسه فهم الكثير من طرديات ذي الرمة وقصائد الحطيئة وجرير والأخطل وغيرهم.
على أن المرء ليحار حقا وهو يرى انحسار هذه الظاهرة بشكل واضح عن جغرافيا الحداثة الشعرية العربية. صحيح أن الأزمنة تغيرت ولم تعد حبيبات الشعراء قابلات للإقامة في كنف الغياب أو التيه الصحراوي، بعد أن تكفلت وسائط التواصل الاجتماعي بنبش المجاهيل والعناوين الغفل وإلغاء الحواجز بين المتحابين. لكن جوهر الحب نفسه يظل غير قابل للتغير، والقلب الذي كان يخفق لرسالة مكتوبة بخط اليد أو عبر الحمام الزاجل، سيظل يخفق لرسالة من نوع آخر يتلقاها عبر الإنترنت أو الهاتف المحمول.

إنه لأمر لافت أن يكون معظم الشعراء الجدد قد أداروا ظهورهم لموضوع الحب، بشقيه الروحي والجسدي، أو أن يتحول هذا الموضوع إلى إسقاط إيديولوجي وغرائزي في حالات كثيرة دون أن يحتفى بالمرأة المعشوقة بالشكل اللائق بها. لا يمكن بالطبع إغفال التجربة الفريدة التي مثلها نزار قباني، حيث لم يسبق لأحد منذ عمر بن أبي ربيعة أن يتحول إلى وكيل شبه حصري للذكورية العربية المعاصرة. ولكن أين هو بالمقابل قيس بن الملوح الجديد؟ وأين هو عروة وجميل وكثيّر؟
سيكون لافتا بالطبع أن نعثر على النموذج العشقي ذاك في بلاد الغرب التي يتهم أهلها بإعلاء الجسد والتهافت على اللذة الحسية، وإدارة الظهر لما هو عفيف وروحي. كذلك كان الأمر مع إدغار ألان بو الذي رفع حبيبته إلينور الى رتبة الأسطورة. وكذلك هو مع أراغون الذي تمثل تجربة قيس بن الملوح في علاقته بحبيبته إيلزا، ومع بول إيلوار مع ليديا ، وبابلو نيرودا في حبه لماتيلد. وكذلك هو مع الفلاسفة والكتاب والفنانين مثل دالي وغالا، سارتر وسيمون دي بوفوار، كازانتازاكي وإيليني.
ليس غريبا إذا أن نتساءل عن سبب هذا التصحر الوجداني والعاطفي الذي ضرب الروح العربية في صميمها، بحيث لم تعد أمة الخيل والليل قادرة على رفد رمادها القديم بما يلزمه من الجمر!