يمكن القول أن البيروقراطية تشكل فئة اجتماعية نوعية تشغل المؤسسات الإدارية، وهي نتاج نوعي للتأثير في عناصر التكوين الاجتماعي، ونجد ذات الآلية (الميكانيزم) في حالة المثقفين وعلاقتهم بالميدان الأديولوجي وهو المعنى الأول، والبيروقراطية من ناحية ثانية هو ذلك النسق التنظيمي الخاص بالأجهزة الإدارية وآلية عملها الداخلية، والذي يتجلى فيه التأثير السياسي والأديولوجي، ويتمثل هذا التأثير فيما يسمى بالنزعة البيروقراطية أو إشاعة البيروقراطية، وهذا يؤدي إلى طرح امكانية استمرار النزعة البيروقراطية دون وجود أو تبلور البيروقراطية بعد كفئة اجتماعية، كما أن هذين الوجهين للظاهرة البيروقراطية يتعلقان دائماً بجهاز الإدارة لا بسلطة الإدارة، والتميز هنا مهم، ومن خلالها نفهم مثلاً كيف يمكن أن تتعارض مصالح الفئة البيروقراطية النوعية أحياناً مع المصالح العليا رغم شيوع النزعة البيروقراطية في هياكل المؤسسات، وتأثير الأيديولوجيا السائدة في القواعد والنظم القانونية المنظمة للأجهزة الإدارية، ويتخذ تأثير الأديولوجيا السائدة في النزعة البيروقراطية صوراً عديدة ففي الصورة العامة يتمثل في الطابع المميز للأيديولوجيا كإخفاء المعرفة أو حجب المعلومات وهنا يتجلى في (السر) البيروقراطي ليس بين الجهاز البيروقراطي والأفراد (المواطنون) فقط بل بين مختلف المؤسسات والدوائر الرسمية، ونلاحظ ذلك على وجه الخصوص من خلال التقارير والتعاميم تحت عنوان «سري للغاية» و«سري» و«محدود الاطلاع» كما تتمثل في تلك السمات المميزة للأديولوجيا وصلتها بمفهوم فيتشية (صنمية) الإدارة، من خلال الطابع اللاشخصي في الوظائف البيروقراطية ووجود أشكال قانونية ونظامية بالنسبة للتوظيف والرواتب والمراكز، سواء عن طريق التعيين من فوق أو عن طريق الاختبار والمسابقات، أو تحديد معيار الخبرة والكفاءة، وينطبق هذا بوجه عام في البلدان المتقدمة التي تشكلت فيها القواعد القانونية والعقلانية أما في البلدان غير المتقدمة ومن ضمها البلدان العربية التي لم تتشكل فيها تلك الأشكال القانونية بعد، لا تزال تتعايش وتتواجد تلك التدخلات ذات الطابع القديم المستند إلى المكانة الاجتماعية والواسطة والمحسوبية أو الانتماء العائلي والعشائري والطائفي والعرقي والجنسي. ويتمثل حضور الاديولوجيا مرتبطاً بمفهوم الشرعية، سواء كانت تلك الشرعية مرتبطة بالشرعية (القانونية- العقلانية) التي تميز المجتمعات الحديثة أو مرتبطة بالشرعية التقليدية أو شرعية الأمر الواقع. وفي إطار هذه الشرعية تبدو البيروقراطية كممثل للوحدة ويمكن أن تدعي بأنها هيئة محايدة تجسد مفهوم الصالح العام. ويستند تأثير الاديولوجيا من ناحية أخرى إلى افتقار المواطنين للثقافة والمعرفة وغياب الشفافية، وهذا ما يمكن البيروقراطية من ادعاء احتكار المعرفة والحقيقة. إن هناك عوامل عديدة تؤدي إذا ما توفرت في تكوين اجتماعي معين إلى بروز البيروقراطية كقوة اجتماعية فعالة، لا كمجرد فئة نوعية لها وحدتها المتميزة واستقلالها النسبي ونستطيع أن نطرح ذلك بشكل ملموس أكثر، ففي كثير من البلدان العربية حيث تنعدم أو تضعف الرقابة (القانونية- العقلانية) وتغيب آليات الرقابة تتحول البيروقراطية (الشريحة العليا) إلى مراكز قوى حقيقية، تعمل إلى جانب أدائها البيروقراطي العام، من أجل تحقيق مصالحها الفئوية الخاصة بها، وتسعى بكافة الطرق والأساليب إلى تعظيم نفوذها وامتيازاتها والعمل على مضاعفة مكاسبها الاقتصادية والاجتماعية، وذلك عبر تصوير نفسها بأنها الضامن لأمن ومصالح الأمة واستقرار المجتمع، مما يعطيها قوة مضاعفة ويجعلها فوق القانون، وخارج إطار المساءلة ناهيك عن المحاسبة والعقاب، بل إن خطرها يتضاعف إذا أحست بأن دائرة امتيازاتها ومكاسبها غير المشروعة قد تتأثر أو يحيق بها الضرر لأي سبب من الأسباب. إن نظرة عامة على واقع بلدان «العالم الثالث» تؤكد بأن معظم الدسائس والمؤامرات أتت بالتحديد من دائرة الجهاز البيروقراطي، إذ ترى البيروقراطية أو أقسام منها بأنها الأحق بأن تتولى كل الأدوار. لذا تبرز الأهمية القصوى لقضية الإصلاح الشامل لكافة البنى وتفعيل المراقبة والمساءلة والمحاسبة القانونية- القضائية، ورفع مستوى أداء ودور الرقابة، وتفعيل الرأي العام (الإعلام ومنظمات المجتمع المدني) للتصدي لكل مظاهر الفساد الإداري والمالي واستغلال النفوذ لخدمة الأغراض والأهداف الفئوية والشخصية الضيقة وفي هذا الإطار تطرح حزمة مترابطة للإصلاح الإداري والوظيفي والتي تشمل الاستناد إلى معايير المواطنة والكفاءة والنزاهة والاستقامة لشغل الوظائف العامة على اختلاف مستوياتها، واعتماد مبدأ التجديد الدوري للحلقات الأساسية في الجهاز البيروقراطي بما يضمن تأمين مصالح وحقوق المواطنين وكذلك إيجاد الأطر القانونية والقضائية الفعالة والنزيهة للتصدي للمتلاعبين والمقصرين والمتجاوزين والمستغلين لمواقعهم الوظيفية. وفي الواقع فإن البيروقراطية هي فئة محافظة على وجه العموم غير إنها لعبت أحياناً أدواراً تقدمية وإصلاحية مثل البيروقراطية الآسيوية ونذكر هنا الدور التاريخي الذي لعبته البيروقراطية اليابانية في صياغة وبلورة المشروع الإصلاحي الجذري للإمبراطور الياباني ميجي والمعروفة بإصلاحات الميجي (منتصف القرن التاسع عشر) والتي أسهمت في تحويل وانتقال اليابان من مجتمع إقطاعي ومتخلف وفقير إلى مجتمع عصري وحديث ومتطور، ونشير إلى تجربة (مماثلة) معاصرة وفي بلد إسلامي هي مملكة ماليزيا والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل البيروقراطية في بلادنا مؤهلة وناضجة وتمتلك القدرة على الإسهام في بلورة وترجمة المشروع النهضوي للوطن، في ظل التوجه الإصلاحي الذي يتبناه ويدعمه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، في تصوري أن البيروقراطية ليست كلاً واحداً وفي الوقت نفسه غير متجانسة وتحكمها اتجاهات متباينة، إذ يوجد بينها من يدعم نهج الإصلاح ويتطلع إلى تجسيده وتعميقه وفي المقابل هناك رؤى واتجاهات محافظة من قبل فئات بيروقراطية ترتاب من كل جديد وذلك انطلاقاً من ذهنيتها وعقليتها وممارساتها القديمة.